أعد اختراع نفسك
ماذا ستفعل بالصوت الذي يصرخ تحت أنقاضك؟
مصطفى حمد
5/24/20251 min read


في تلك الليلة، بعد أن خلعتُ البدلة التي ارتديها للمرة الألف، نظرتُ في المرآة طويلًا.
الرجل الذي يحدق بي من خلف الزجاج لم يكن غريبًا... لكنه لم يكن أنا.
كان يشبهني، نعم، لكن شيئًا ما في عينيه كان مُغبرًا... كنافذة نسيتها مغلقة سنوات، حتى نسيت شكل الشمس.
كنت أمارس دوري، أؤدي ما يُتوقع مني، أبتسم في الصور الجماعية، وأعود للبيت بشيء يشبه الحياة لكنه ليس منها.
وفي لحظة هدوء، قرأت تلك الكلمات التي كسرتني:
"من لم يتفقد النقص من نفسه دامت عليه الغفلة، ومن دامت عليه الغفلة، كان الموت خيرًا له من الحياة."
— الإمام علي (عليه السلام)
بقيتُ أحدق فيها كما يحدق طفل في شمعة.
شعرت أنها لم تُكتب لتُعلَّق على جدار، بل لتُصفع بها الأرواح التي نامت وهي تسير.
ومن بعيد... كان ثمة صوت خافت لساعة حائط لا أملكها، تدقّ بلا توقف. كأنها تقول: لا تؤجل الحياة.
من هنا بدأت الرحلة...
- الدعوة إلى الحياة: "يَدْعُوكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ"
الغفلة ليست جهلًا، بل تجاهلًا.
أن تذوب في التكرار، أن تصحو وتنام على نفس الإيقاع دون أن تسأل نفسك: لماذا؟ إلى أين؟
أن تمر بك الأيام كما تمرّ سيارة إسعاف على غريب، يعلم أنها على عجل لكنها لا تخصه.
لكن هناك منادٍ خفي، يقول:
"يَدْعُوكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ"
لا يتحدث عن نبض القلب.
بل عن نبض الروح.
عن ذلك الصوت الدفين الذي تُسكته بالمواعيد، والروتين، والواجبات.
حديثي هذا ليس نصيحة ولا خطة، بل دعوة... ربما يسمعها من كان نائمًا بعينين مفتوحتين.
دعوة إلى أن تعيد اختراع نفسك — لا لتصبح شخصًا آخر، بل لتعود إلى نفسك التي هجرتها.
كيف؟
لنبدأ من هنا...
- اسأل: ماذا مات فيك بصمت؟
حسام كان محاميًا ناجحًا. مواعيده ممتلئة، مكالماته لا تنتهي، وجوائزه تلمع على رفوف مكتبه الزجاجية.
لكن كل مساء، حين يدخل بيته، يخلع ربطة العنق ويعلّقها على مقبض الباب.
كأنما يعلّق جزءًا من روحه.
في شرفته نبتة ذابلة.
أهداها لزوجته قبل أن ترحل، ومنذ غيابها لم يسقها يومًا.
قال لي ذات مرة:
"أنا حيّ يا صديقي... لكنني لا أعيش."
الغفلة ليست ضياع الطريق.
بل أن تستمر بالسير وأنت تعرف أنه الطريق الخطأ، فقط لأنك تعودت على الحذاء.
اسأل نفسك الآن:
هل هناك شيء فيك مات دون جنازة؟
حلم قديم؟
صوت كنت تسمعه وأغلقته؟
ربما آن أوان النبش.
- عد إلى نقطة الصفر... لا تخف
ليلى كانت تحب الرسم. أيام المدرسة كانت تلوّن زجاج النوافذ بألوان مائية تبهج العيون.
لكن بعد وفاة والدها، تحولت حياتها إلى لوحة رمادية.
درست إدارة أعمال، تخرجت، عملت في التسويق.
وفي كل عرض تقديمي كانت تشعر أن الألوان تَصفع روحها.
في إحدى الليالي، بينما تطحن القهوة التركية بيد مرتعشة، فتحت حاسوبها وضغطت على زر التسجيل في دورة فن تشكيلي.
قالت لي بعدها:
"ما بكيت لما قبلوني، بكيت لما قال المحاضر: (أنت فنان منذ اللحظة التي تقرر فيها أن ترى العالم بطريقة مختلفة)."
أول لوحة رسمتها كانت وجهًا لفتاة صغيرة... وعندما انتهت، همست لنفسها:
"أخيرًا عرفتني."
حين رسمتْ لوحتها الأولى، شعرت أن دقات الساعة نفسها توقفت فجأة. وكأن الزمن منحها لحظة اعتراف.
هل تجرؤ أن تبدأ من الصفر؟
أن تخلع قبعة العقل وتلبس خوذة القلب؟
أن تعود للونك الأول؟
- تعلَّم شيئًا يُربكك... لتعرف نفسك من جديد
أحمد، الذي كان معلم رياضيات صارم، قرر فجأة أن يتعلم الإسبانية.
قال لي: "ما كنت أعرف معنى (Hola)، بس قلبي كان يرقص كطفل يلعب تحت المطر لما سمعتها."
جلس أمام تطبيق اللغة يوميًا، يخطئ، يضحك، يدوّن، ويعيد.
في أحد الأيام، ترك دفتره على المكتب، قرأت على غلافه:
"هنا أكتشف نفسي التي لم تُدرّسها لي المدارس."
بعد سنوات، وجدتُ دفتره في كراكيب منزله. كان مفتوحًا على صفحة كتب فيها بخطٍ متردد:
Hola, me llamo Ahmad... وأخيرًا، أعرف معنى اسمي.
تعلُّم شيء جديد لا يضيف مهارة فقط.
بل يُربكك بطريقة جميلة.
يعيدك إلى لحظة الطفولة، حين كنت تنظر الى كل شيء بدهشة.
فكر الآن...
ما الشيء الذي ترغب في تجربته منذ زمن، لكن تخشاه لأنك "متأخر جدًا"؟
ربما هو الشيء الوحيد الذي سيوقظك.
- لا تنتظر أن تكتمل... تحرّك الآن
السيدة أم رُقيّة تجاوزت الستين حين عادت إلى مقاعد الدراسة.
جلست في أول صف، بين شباب يصغُرونها وبأعمار أولادها.
سألتها مازحًا: "ليش هسا؟"
ضحكت وقالت:
"لأن صوت البنت الصغيرة داخلي صار يوقظني كل ليلة ويقول: إذا ما درستِ الآن، رح تموتين جاهلة مرتين!"
ليست المسألة في الوقت.
بل في التوقيت.
وفي الجرأة.
لا تنتظر أن تشحن البطارية الروحية بالكامل.
ابدأ وأنت مُنهك.
ابدأ وأنت لا تعرف.
الحياة ليست مشروع تخرج.
إنها تجريب دائم... واكتشاف متكرر.
صدى الصوت الذي يشبهك
الموت سهل.
لكونه لا يحتاج الى شجاعة.
لكن أن تمسح زجاج الغفلة بكمّ قميصك الممزق...
أن تستيقظ رغم أن كل النجوم انطفأت...
هذه هي المعجزة.
قبل أن تغلق هاتفك، أغمض عينيك لحظة.
هل تسمع ذلك الصوت الخافت؟
إنه أنت الحقيقي...
الذي يصرخ من تحت أنقاض "المعتاد"، ويقول:
إذا لم تسمعني اليوم، فلن أكون غدًا سوى صدى.
وذات يوم، حين تُغمض عينيك للمرة الأخيرة،
ستكتشف أن أكبر خسارة لم تكن أنك متّ...
بل أنك عشتَ طوال الوقت كظلٍّ ينتظر أن يُولَد.