"أحيانًا... لا نحتاج القمة"

مقال تأملي مستوحى من الواقع العراقي، يناقش فكرة النجاح من منظور مختلف، ويركّز على أهمية الوعي الذاتي في اختيار المسارات التي تناسبنا حقًا. ليس كل جبل يستحق أن نتسلّقه... أحيانًا يكفي أن نقف ونُعجب.

المقالات

مصطفى حمد

4/22/20251 min read

عند سفح الجبل... وقفت ولم أتسلق

في إحدى عطلات الشتاء، سافرتُ مع بعض الأصدقاء إلى كردستان الحبيبة. كنا نتجه نحو قرية جبلية صغيرة قرب العمادية. كان البرد قارصًا، لكن المنظر... ساحر. الجبل كان أمامنا، شامخًا، كأن السماء اتكأت عليه.

قال أحد الأصدقاء بحماس:

"غدًا نتسلقه، ما رأيكم؟"
ضحكنا وتحمّسنا، لكني، بصراحة، لم أرغب.

في صباح اليوم التالي، استيقظ الجميع باكرًا، وبدؤوا رحلتهم نحو القمة. أما أنا، فبقيت في أسفل الطريق، أحتسي استكانة الشاي، أراقب الغيوم وهي تمر من فوق الجبل، وشيء ما في داخلي استقرّ... كان شعوراً بالرضا.

حين عادوا في المساء، كانوا مرهقين، يتباهون بالصور التي التقطوها. سألني أحدهم باستغراب:

"لماذا لم تتسلق؟ فاتك المنظر من الاعلى!"

ابتسمت، ولم أشرح كثيرًا. لكن في داخلي، كنت أعلم:
لم أكن أبحث عن قمة... كنت أبحث عن راحة.

🔹 من هنا بدأ السؤال...

لماذا نشعر بالحاجة إلى قهر كل ما نصادفه من جمال؟ متى أصبح التقدير دون امتلاك غير كافٍ؟

هناك شيء في ثقافتنا يُخبرنا أن كل جبل وُجد ليُتسلّق. أن رؤية قمة وعدم محاولة الوقوف فوقها يُمثل نقصًا في الطموح أو الشجاعة.

أرى أن هذا وهم لا أساس له.

نعيش في عالم مهووس بالإنجاز. بالمزيد من العمل، والامتلاك، والوجود. تُدرّ صناعة التطوير الذاتي وحدها مليارات الدولارات، مُعلّمةً إيانا كيف نُحسّن أنفسنا، وكيف نُحصّل إنتاجية أكبر من كل لحظة يقظة، وكيف نُحوّل أجسادنا وعقولنا إلى آلات مُصمّمة للنجاح.

"كل جبل في متناول اليد إذا استمررت في التسلق"

هكذا يقول مُلصق تحفيزي رأيته في عيادة طبيب الأسنان، أسفل صورة فوتوغرافية لمتسلق على قمة جبل عند شروق الشمس. الرسالة واضحة: أي شيء أقل من الوصول إلى القمة يعني الفشل.

تتجاوز هذه العقلية الجبال الحقيقية. تُؤثّر على مساراتنا المهنية، وعلاقاتنا، وهواياتنا. يصبح كل شيء قمةً علينا اجتيازها، وتحدّيًا علينا تجاوزه.

لماذا نشعر دائمًا أن علينا الصعود؟ أن كل شيء جميل لا يكتمل إلا إذا "أخذناه"، غلبناه، أو وصلنا لنهايته؟
في مثل مجتمعاتنا، المليئة بالتحديات والطموحات المؤجلة، نشأنا على فكرة أن علينا أن نصل... أن نكون الأفضل، أن نحقّق "شيئًا" يُقال عنه إنجاز. لقد كبرنا على مفاهيم مثل:

- "اللي ما يصعد ما يشوف"
- "اتعب اليوم ترتاح باچر"
- "شَوّفنا إنجازك"...

هناك القليل من يسأل: هل أريد أن أرى من اعلى؟ هل في هذا راحتي فعلاً؟ أم أنني أسير بخطى غيري؟

لكن مع الزمن، ومع التجربة، يتبيّن للكثير منّا أن بعض الطرق ليست لنا، وبعض القمم ليست هي ما نبحث عنه.

🔹 ليس كل جبل يُصعد... بعضه يُعاش

في مجتمع مليء بالضجيج والتنافس، أن تعرف نفسك وتتصالح معها هو بطولة بحد ذاته.

أتذكر شابًا التقيت به في شارع المتنبي. يبيع لوحات يرسمها بألوان مائية هادئة. سألته: "ليش ما تفتح معرض محترف؟ عندك موهبة."
أجاب ببساطة:

"ما أحب التعقيد... خلي لوحاتي تمشي بين الناس، مو على جدران فخمة."

أو تلك الفتاة التي كانت تدرّس في جامعة أهلية، ثم تركت كل شيء لتفتتح مقهى للقراءة في الكرادة. لم تكن تبحث عن لقب أكاديمي، بل عن مكان يشبهها.

هؤلاء الأشخاص ليسوا مخادعين، لأن أبحاث علم النفس تؤكد ذلك. إذا بحثت في جوجل، فستجد أن العديد من الدراسات حول السعادة تُظهر باستمرار أن الأهداف الخارجية، كالشهرة والثروة والإنجاز لمجرد الإنجاز، ترتبط جميعها بمستويات أدنى من الرفاهية مقارنةً بالأهداف الجوهرية كالتواصل والنمو والمعنى.

بعبارة أخرى، تسلق الجبال لأنك تعتقد أنه يجب عليك ذلك يجعلك بائسًا. تسلقها لأن التسلق نفسه يجلب لك السعادة يجعلك سعيدًا.

والأهم من ذلك هو البحث الذي يُطلق عليه علماء النفس "وهم التركيز". نميل إلى المبالغة في تقدير مدى تأثير تحقيق هدف معين على سعادتنا. نعتقد أن الوصول إلى القمة سيُغير حياتنا، بينما في الواقع، عادةً ما تكون زيادة السعادة مؤقتة.

كما قال لي ذات مرة رجل من العمارة كان يصنع القوارب الصغيرة من الخشب. قال:

"ما أصنعها للبيع... أسويها لأني أحب ريحة الخشب."

🔹 فكيف نُطبّق هذا إذن؟ كيف نُحدد أي الجبال نتسلق وأيها نُعجب به؟

السر، بالطبع، هو معرفة أيّ الجبال خُلقت لتتسلّقها وأيها خُلقت لتُعجب بها.

الوعي الذاتي لا يعني الانسحاب من الحياة، بل أن تختار معاركك، أهدافك، وطرقاتك عن قناعة، لا عن ضغط.

فكّر جيدًا: لماذا تسعى لهذا الشيء؟

- هل تحبه؟

- أم أنك فقط تُقلّد؟

- هل تشعر بأنك "أقل" إن لم تفعله؟

- ام يبدو جيدًا على سيرتك الذاتية؟

- او على شاهد قبرك؟

فكّر فيما تُضحي به لتسلق الجبل. كل جبل يتطلب موارد - الوقت، الطاقة، الاهتمام. الموارد المحدودة. ما هي الوديان، المروج، الأنهار التي تُفوّت عليك بالتركيز فقط على القمة؟

مارس التقدير دون امتلاك. تعلم أن تنظر إلى الجبل - قد يكون أي شيء أحببته... مهنة لم تسعَ إليها، مهارة لم تتقنها، تجربة لم تعشها - وقل: "هذا جميل، وهو ليس لي".

"هل هناك جبل في حياتك تتسلقه فقط لأن المجتمع أو العائلة أو الزملاء يتوقعون منك ذلك؟
متى كانت آخر مرة سألت نفسك: هل هذا الطريق لي فعلًا؟"

ختامًا...

عُدنا من رحلتنا في الشمال، ولم أنس ذلك الصباح البسيط عند سفح الجبل. لا صورة التُقطت، ولا قمة شُوهدت... فقط لحظة راحة، تأمل، ووعي صغير تشكّل في داخلي.

ها أنا اليوم، لم أتسلق الجبل قط. لم أكتب كتابًا من أكثر الكتب مبيعًا. لا أدير شركة، ولم أفز بجائزة يُقدّرها أي شخص خارج دائرتي المُقربة.

قد لا أكون صعدت... لكني كنت هناك، بطريقتي.

ليس كل جبل يجب أن يُتسلّق.
أحيانًا، يكفي أن تجلس وتُعجب... وتختار طريقك بقلبك، لا بأعين الآخرين.

هناك جبالٌ حولي لن أصل إليها أبدًا. وهذا ليس فشلًا، بل اختيار. إنه إدراكٌ بأن الحياة قصيرة، وأن التركيز محدود، وأن بعض الجبال خُلقت ليتسلقها الآخرون.

بدلًا من ذلك، جلستُ عند سفح تلك الجبال ونظرتُ إلى الأعلى بدهشة. صفّقتُ لمن تسلّقوها. تعلمتُ من رحلاتهم دون أن أشعر بالرغبة في تكرارها.

ووجدتُ جبالي الخاصة... ربما أصغر، وأقل إثارةً للإعجاب لمن حولي (ربما)، لكنها جبالي. جبالٌ يُسعدني تسلقها، وتُتيح قممها مناظر تُهمّني.

ليس كل جبل يستحق التسلق. بعضها يستحق الإعجاب. وفي هذا الإعجاب، ذلك التقدير دون امتلاك، تلك الفرحة دون قهر، ثمة قمة من نوع آخر.

ولكن إذا وجدتَ متعة حقيقية في التسلق نفسه... إذا ناداك الجبل بصوت يتردد في أعماقك، فأنا أؤمن بشدة، تسلق. ادفع نفسك للأمام. تجاوز تلك الحدود. بلِّغ تلك القمة.

ليس الهدف تجنب التحدي أو التنكر للعظمة. بل ببساطة التأكد من أن الجبال التي تتسلقها ملكك حقًا، وليست مجرد فكرة شخص آخر عما يجب أن تكون عليه جبالك. لقد فهمتني، أليس كذلك؟