الصبر: وعي بالزمن
الصبر لا يعني الانتظار وليس تسويفاً يبرر الخمول، بل هو الثقة بتوقيتات الاشياء.
المقالات
مصطفى حمد
4/6/2025


ذات مرة، كنت جالسا في سيارتي انتظر مكالمة من أحدهم ليخبرني عن قبول عرضي او رفضه..
كان امامي على الجانب الاخر من الطريق محطة انتظار الحافلات.. يجلس فيها رجلان جنباً الى جنب.. لم اعرف واقعا هل هما معا ام فقط جمعتهما المحطة..
أحدهما يتلفّت كل لحظة، يحدّق في ساعته، يتحرك في مقعده، ينهض ويجلس، يتأفف، ويبدو عليه القلق وكأنه يتساءل:
"تأخّر… تأخّر كثيرًا، ربما لن يأتي أصلاً!"
أما الآخر، فكان جالسًا بهدوء. لا تبدو عليه علامات العجلة، ولا قلق المواعيد. عيناه ساكنتان، كأنّه لا ينتظر شيئًا على الإطلاق… كل ما شغله حينها ترتيب بعض الأوراق في يده.. ومع ذلك، هو هناك، في ذات المحطة، لذات الغرض.
وبعد وقت قصير وصلت الحافلة وصعد الاثنان..
تلك اللحظة كانت بالنسبة لي لحظة اداراك.. لحظة "آها.. الان فهمت".. وقررت الانطلاق في طريقي وعدم الجلوس منتظرا المكالمة..
وانت.. ما الذي تعتقد أني فهمته في تلك اللحظة؟
مع أنى اعتبر نفسي شخص صبور -حيث صبري مصدر ازعاج لزوجتي واولادي- الا انني أدركت في تلك اللحظة ان الصبر في حقيقته ليس حالة مؤقتة نمر بها عندما يتأخر حدوث شيء ما في الخارج، بل هو مهارة داخلية تنبني في عمق الوعي الذاتي.
تذكرت الأوقات الجميلة، عندما وصلتني دعوة التدريب التي فقدت الامل فيها بعد ثلاث أشهر.. علاقتي التي ازدهرت بعد سنوات من الصداقة.. عودة حديقة منزلي للحياة فجأةً في الربيع بعد يأسي منها.. ابنتي، التي تأخرت في النطق ثم بدأت فجأة تتحدث بجمل كاملة..
فكان قراري ان لا انتظر وامضي في طريقي.. ان اتجاوز انتظار تلك المكالمة، ومشاعر القلق، والشك، والتساؤل ان كنت فعلت كل شيء وبذلت كل ما بوسعي، وعشرات الأفكار في حساب الفرص وإعادة حساباتي، كما لو ان الوقت مسألة رياضية أستطيع حلها.
تعلمت ان الصبر، هو اختبار حقيقي لنضجي: كيف اتعامل مع الوقت؟ مع التأخير؟ مع ما لا أستطيع التحكم به؟ وانه ليس ان "أتوقف" حتى تحدث الأشياء، وانما الحضور بكل وعي بينما تتشكل.
في رحلة الوعي الذاتي الصبر ليس رفاهية، بل ضرورة. لأنه يقوم على ثلاثة ابعاد من الوعي، يمكنها ان تشكل أساس رحلتك:
🌀 أولًا: الصبر كوعي بالذات
أن تعرف نفسك يعني أن تمنحها الوقت.
في العمل على الذات لا يوجد حدثاً لحظياً ولا توجد قفزات سحرية، بل هو رحلةٌ طويلة من المراقبة والتأمل. والوقت هو شرط الاكتشاف والنمو.
كل فهم حقيقي لذاتك، يحتاج وقتًا. كل شعور غير واضح، يحتاج مساحة. حين تسأل نفسك مثلاً: "لماذا أشعر بالغضب دائمًا؟"، لن تجد الإجابة بين ليلة وضحاها. ستكتشفها تدريجيًّا عبر ملاحظة أنماطك، وردود أفعالك، وحتى أخطائك. والإجابة السريعة في هذه الحالة ستوقعك في الأوهام: كمن يقرأ تحليلا نفسيا عاماً، فيختزل شخصيته في جملة جاهزة.
الصبر هنا هو احترام لتوقيتك الخاص، وليس مقارنة نفسك مع الآخرين، ان تتوقف عن الحكم عليها قبل ان تفهمها، وتكون مستعدا لتقبل التناقضات داخلك من دون ذعر.
فعندما تجلس في جلسة تأمل تحاول فيها إعادة التفكير في بعض تجاربك، او عندما تحضر في دورة تدريبية او جلسة استشارة، فالصبر يعني ان تظل حاضراً مع نفسك دون ان تستعجل نتيجة او تحول.
⏳ ثانيًا: الصبر كوعي بالزمن
الأشياء تنضج حين تكون جاهزة، لا حين نستعجلها.
اهدافك واعمالك وعلاقاتك لن تثمر الا حين تروى بصبر وتمنح ما تحتاجه من وقت. لا يعني هذا ان الوعي بالزمن ان تنتظر "بلا فعل" بل تدرك حقيقة ان الفعل وحده ليس علة تامة، وتؤمن ان الوقت عامل مؤثر من ضمن العوامل التي لابد من اخذها في الاعتبار، وأنك تحترم إيقاع الحياة والنظام العام الذي يسير به العالم.
أنا متأكد أن الكثير منا قد سمع قصة المزارع الذي هرب حصانه. فقال جيرانه: "يا له من حظ سيء!" فأجاب المزارع: "ربما".
في اليوم التالي، عاد الحصان ومعه سبعة خيول برية. قال الجيران: "يا له من حظ سعيد!". قال المزارع: "ربما".
في اليوم التالي، كسر ابن المزارع ساقه وهو يحاول ترويض أحد الخيول البرية. "يا له من حظ سيء!" "ربما."
بعد أسبوع، جاء الجيش لتجنيد الشباب للحرب، لكن الابن نجا بسبب كسر ساقه. "يا له من حظ سعيد!" "ربما."
وتستمر القصة، وكل حظ ظاهري يتبعه سوء حظ، وكل كارثة تفتح أبوابًا غير متوقعة.
انا هنا لا أقول ان نؤمن بالقدرية، وانما علينا ان ندرك اننا لا نستطيع في اغلب الأحيان رؤية نمط الأمور بأكمله، بالخصوص عندما نكون لا نزال في داخلها. فالمزارع لم يكن لديه نظرة سلبية للأمور، بل استمر في زراعته والاعتناء بابنه وعاش حياته كما ينبغي له، لكنه في نفس الوقت لم يقاوم توقيت الاحداث التي لا يستطيع التحكم بوقتها.
في السابق، انتظر الملوك -وهم ملوك- شهوراً حتى تصل رسائلهم الى أطراف امبراطورياتهم، وزرع اجدادنا اشجاراً لن يتذوقوا ثمارها ابداً. فماذا عرفوا ونسينا؟
لذا، فالأشياء تحدث وفق جدولها الزمني لا وفقاً لجداولنا.
🛤 ثالثًا: الصبر كوعي بالعملية
الطريق ليس مؤقتًا… هو الذي يصنعك.
ان كل قراءة وكل تمرين وكل لحظة تأمل هي جزء من عملية تشكل شيئاً منك، وان لم تلمحه الان. ومن الطبيعي ان تشك أحيانا او تتساءل: "هل ما افعله يُجدي؟". ما يحدد الإجابة هو الكيفية التي يظهر بها صبرك في تلك اللحظة: كتحمل -مجرد حالة من الانتظارالسلبي يبقيك في وضع غير مريح او مؤلم؟ - ام كقناعة - بان خطواتك الصغيرة اليومية -مهما بدت بسيطة- سوف تظهر أثرها؟ -
مثال بسيط:
- شخص ينتظر تحقيق هدفه، لكنه كل يوم يشكو، يتألم، يشعر أن الوقت ضده، لكنه يصبر لأنه مضطر... هذا تحمّل.
- بينما آخر، يقوم بنفس الخطوات، ويواجه نفس التأخيرات، لكنه يُدرك أن هذه المرحلة تبنيه، لا تضيّعه… هذا صبر قائم على قناعة داخلية واعية.
أن الصبر الذي ينبع من قناعة، لا من مجرّد تحمل الواقع دون وعي، هو الصبر الذي يُنضج الوعي الذاتي ويثبت وعيك بالعملية، ويصنع التحوّل.
إليك طريقة بسيطة لتميّز بها نوع صبرك:
اسأل نفسك:
"هل أنتظر لأنني أدرك أن التغيير يحتاج وقتًا؟ أم لأنني خائف من التحرك؟"
الصبر الواعي لا يعني الجلوس في الظل، بل تحويل فترة الانتظار إلى مرحلة بناء.
حوّل الانتظار إلى فعل هادف يعزز وعيك الذاتي:
- إن كنت تنتظر وضوحًا في قرار شخصي، فابدأ بكتابة ما تعرفه عن نفسك وما زال غامضًا.
- إن كنت في فترة فتور أو غموض، فراجع أنماطك العاطفية القديمة — متى تهرب؟ متى تتعلق؟
- إن كنت تنتظر تغير شعورك تجاه شخص أو موقف، فجرّب أن ترصد كيف يتغير إدراكك له من يوم إلى آخر — من دون حكم، فقط مراقبة.
كل خطوة من هذه، تُبقيك في حالة وعي نشط، بدلًا من تحمّل سلبي.
..............
الصبر كفنٍّ عملي للوعي
1- في العلاقات:
العلاقات الإنسانية تحتاج إلى "الزمن الخفي" لتنضج:
المحبة العميقة لا تُبنى بالعواطف الصاخبة، بل بالتفاصيل الصغيرة التي تتراكم على مهل.
الصبر هنا هو الوعي بأن البشر كالأشجار: قد يُظهرون أفضل ما فيهم بعد فصولٍ من الصمت.
2- في الإبداع:
الفرق بين العمل العادي والعمل الخالد هو الزمن الذي بذل فيه:
الروائي أورهان باموق يقول: "أنا لا أكتب رواية، بل أتركها تنضج في دماغي 10 سنوات قبل أن ألمس القلم".
الصبر هنا هو الوعي بأن الإبداع عملية تخمير، لا تفريغٌ سريعٌ للمشاعر.
3- في الأزمات:
دراسة أجرتها جامعة هارفارد (2020) على الناجين من أزمات مهنية كبيرة وجدت أن:
78% منهم قالوا إن "الصبر" كان سر تعافيهم، لأنه سمح لهم بفهم الأزمة بعمق، بدل الاندفاع نحو حلولٍ سريعة زادت الأمور سوءًا.
الصبر هنا هو الوعي بأن الألم معلِّمٌ بطيء، لكنه لا يُعوَّض.
...............
كيف يمكن ان تجعل صبرك واعياً؟
- حوِّل الانتظار إلى مراقبة:
بدل أن تعد الدقائق حتى ينتهي الاجتماع الممل، لاحظ لغة جسد الآخرين، أو استمع إلى نبرات أصواتهم.
- ثق بالتأثير التراكمي:
اكتب جملة واحدة يوميًّا عن مشاعرك، بعد عامٍ ستجد أنك خريطةٌ لنفسك.
- تذكَّر أن الصبر جذرٌ، والنتائج ثمار:
كما قال جبران خليل جبران: "أنت أعمق بكثير مما تظن، لكنك تحتاج إلى السير ببطء كي تلمس أعماقك".
وهذا العمق لا يمكن اكتشافه في لحظة استعجال، بل فقط في لحظات نُصغي فيها لبطء خطواتنا الداخلية.
في الختام، الرجل الهادئ في محطة انتظار الحافلات لم يكن لا مبالياً، كان يعرف ان الحافلة ستأتي حين يحين موعدها، وكان يعرف أيضا ان القلق لن يسرع دواليبها.
وهكذا هو الصبر في رحلتك نحو وعي أعمق بالزمن: ان تكون ثابتاً ومرناً ومتزناً.. حتى مع تأخر الإجابات، فالصبر الحقيقي هو أن ترفض أن تكون سجين اللحظة، وأن ترى حياتك كلوحةٍ تُرسم بفرشاة الزمن.
"لأنك لا تنتظر كي يمنحك الزمن شيئًا فقط، بل تنتظر كي تتحوّل أنت إلى الشخص القادر على استقباله."