الوفاء غير المُعلن... حين وجدتُ أبي في داخلي
متى كانت المرة الأولى التي سمعت فيها صوت والدك يخرج من فمك؟
مصطفى حمد
5/4/20251 min read


متى كانت المرة الأولى التي سمعت فيها صوت والدك يخرج من فمك؟ تلك اللحظة التي تجد فيها نفسك تكرر نفس الكلمات، تتصرف بنفس الطريقة، وتفكر كما كان يفكر. ربما لم تدرك ذلك حينها، ولكن بمرور الوقت، ستدرك أن الأجيال تلتقي فينا، نحن الجسر الذي يعبر بين الماضي والمستقبل.
في مراهقتي، كنت أعتقد أنني مختلف جذريًا عن أبي. كان يبدو لي أنه ينتمي إلى جيل آخر، يتصرف بطريقة قديمة. أحيانًا كان ينزعج من أشياء لا أراها ضرورية، وأحيانًا أخرى كان يقفز على التفاصيل الصغيرة التي كنت أعتبرها تافهة. كان يفضل إصلاح الأشياء بنفسه بدلًا من طلب المساعدة، وكان دائمًا ينتقد إسراف الكهرباء والمياه. كنت في البداية أُقدّر هذا، ولكن مع مرور الوقت، بدأت أراه مجرد عبء زائد.
لكن مع مرور السنوات، أصبحت أمارس نفس هذه السلوكيات التي كنت أنتقدها. أصلح الأشياء بنفسي، أراقب بعناية مصروفات الكهرباء، وأشعر براحة كبيرة عندما أسمح لنفسي بالتسامح مع الآخرين بدلاً من أن أتوقع منهم الكمال. فكيف حدث هذا؟ وكيف تحولت تلك الانتقادات إلى تصرفات لا شعورية؟
من خلال تجربتي الشخصية، وجدت نفسي أعيش وفاء غير مُعلن، ليس لأبي فحسب، بل لكل تلك الصفات التي ورثتها منه دون أن أعي. لم تكن مجرد محاكاة أو تقليد، بل كانت حكمةً غير مُعلنة عميقة، تخرج من جوانب حياتي بشكل غير مرئي، كما لو أنها غُرست في داخلي عبر مسارات غير مرئية.
التعلم اللاواعي
من أولى الدروس التي تعلمتها كان التعلم اللاواعي. فعندما نعيش مع والدينا في مرحلة الطفولة والمراهقة، نتشرب سلوكياتهم بطرق غير مباشرة. نحن نعيش في محيط مكون من تصرفات وأساليب حياة معينة نراها يوميًا، سواء كانت حديثًا عن الإدارة المالية، أو التعامل مع الأزمات، أو حتى طرق التعبير عن المشاعر. نحن نلاحظ دون وعي، ثم نُقلد هذه التصرفات في مواقف مشابهة.
هل حدث أن وجدت نفسك تردد كلمات والدك دون قصد؟ هذا ليس تقليدًا عابرًا، بل هو صدى تعلم عميق، نما في صمت سنوات المراقبة. كما أشار ألبرت باندورا في نظريته عن التعلم الاجتماعي، فإن المراقبة اليومية لسلوكيات الوالدين تُشكل نموذجًا داخليًا نتبناه دون وعي. فعندما نعيش مع شخص طويلًا، تصبح سلوكياته جزءًا من نموذجنا الفكري الذي يؤثر في كل اختياراتنا اليومية، حتى وإن لم نكن نُدركه في البداية.
الوراثة البيولوجية والنفسية
لكن هناك بعد آخر لهذا التحول. الوراثة البيولوجية والنفسية لها دور كبير في هذا الأمر. بالطبع، الوراثة البيولوجية تلعب دورًا في نقل صفات معينة من شخص لآخر، سواء في الشكل أو الطبع. لكن في حالتي، كان الوراثة النفسية تتجلى أيضًا بشكل قوي. ووجدت نفسي أعيش بعض الأنماط السلوكية التي كانت سائدة في أسرة والدي. فوالدي رغم طبعه الحاد وعصبيته المعروفة في عائلتنا، الا انه كان دائمًا هادئًا في مواجهة الأزمات، وكان يتحلى بصبر لا نهاية له، وكان يتحمل المسؤوليات بكل عزيمة، ويقف بثبات في مواجهة الصعاب. ومع مرور الوقت، أدركت أنني بدأت في التفاعل مع المواقف بنفس الطريقة التي كان يتعامل بها.
تُظهر الدراسات في علم النفس التطوري أن بعض الصفات النفسية، مثل الصبر، يمكن أن تُنتقل عبر الجينات، لكن البيئة تظل العامل الأكبر في صقلها وتوجيهها. ربما تكون هذه الصفات قد انتقلت إليّ بشكل غير مباشر، لكن البيئة التي نشأت فيها، وخاصة تفاعلي اليومي مع والدي، كانت العامل الأكبر في صقل هذه السلوكيات في داخلي.
النضج والتجربة
عندما دخلت مرحلة النضج، وجدت أن التجربة والنضج يسهمان في تفسير الكثير من التصرفات التي كنت أراها غير ضرورية أو مفرطة في البداية. مع مرور الزمن، بدأ هذا الفهم يتسارع. أصبحت أرى أن ما كان يبدو لي "تشددا" أو "تحفظًا" كان في الواقع حكمة متراكمة. مثلما كان يفعل والدي، بدأت أرى كيف أن بعض التفاصيل التي كنت أعتبرها ثانوية، في الواقع تحمل قيمة كبيرة. كان حرصه على إطفاء الأنوار والمكيفات، على سبيل المثال، ليس مجرد تشدد، بل كان نوعًا من الإدارة الحكيمة للموارد، وتقليل النفقات لأجل أشياء أكبر وأكثر أهمية.
ذات مرة، كسر باب البراد (الثلاجة) وأردت شراء واحد جديد، لكنني فجأة تذكرت أبي وهو يصلح الأشياء المكسورة في البيت بمفك ومسمار. وجدت نفسي أفعل الشيء نفسه، مبتسمًا لذكرى كنت أعتبرها قديمة. وعندما تحملت مسؤولية فواتير المنزل لأول مرة، أدركت لماذا كان أبي يحسب كل فلس. لم يكن بخلاً، بل وعيًا منه بثمن الأشياء الكبيرة التي تتطلب توفيرًا.
لحظة الصمت والدهشة
لكن لحظة التحول الحقيقية في تجربتي كانت عندما أدركت أنني أصبحت أتحدث مثل والدي، أو أتخذ نفس قراراته الصغيرة. في لحظة صمت، يمكن أن تجد نفسك تردد نفس الكلمات التي كان يقولها في المواقف نفسها. قد تبتسم بدهشة، أو ربما تشعر بحنين، وفي تلك اللحظة يدرك الشخص أن الزمن قد أعاده إليه بشكل غير مُعلن. هذه اللحظة هي التي تدرك فيها أن الكلمات تخرج منك، ولكنها في الواقع كانت قد رسخت في داخلك عبر السنين.
ذات يوم، وبينما كنت أهدئ ابني بعد كابوس، خرجت من فمي نفس الكلمات التي كان أبي يهمس بها لي: "لا تخف، أنا هنا". تجمدت للحظة، كأن صوت أبي يعيش بداخلي. كان هذا بمثابة لحظة إدراك نادرة، حيث شعرت وكأنني أُعيد إنتاج جزء من "الوجود" الذي عاشه والدي في حياتي.
الوفاء غير المُعلن... ماذا عنك؟
قد تمر انت أيضا بتجربة مشابهة، يمكن أن تجد نفسك في ذات اللحظة التي تجسد فيها الوفاء غير المُعلن، ففي لحظة قد تجد نفسك تكرر كلمات والديك، أو تتصرف مثلهم دون أن تشعر. خذ لحظة الآن لتتأمل: ما التصرف الذي تفعله ويذكرك بأحد والديك؟ كيف تشعر تجاه هذا التشابه؟ هل تعتقد أنك تستمر في نفس المسار الذي بدأه الوالدان؟
جرّب كتابة يوميات تلاحظ فيها السلوكيات الموروثة، وراقب كيف تؤثر على قراراتك اليومية. قم بتسجيل المواقف التي تلاحظ فيها أنك قمت بنفس الفعل أو قلت نفس الكلمات التي كانت تتردد في منزلك في طفولتك. ستدهش حين تكتشف كم من تلك السلوكيات قد نشأت عن طريق "التعلم اللاواعي".
خاتمة
الوفاء غير المُعلن ليس انصهارًا في الماضي، بل جسرًا نحو المستقبل. الآن، وأنا أرى ابني الاكبر يصلح مَصد سيارته المهشم (الدعامية) مع صديقه في باب المنزل، أعرف أن الوفاء غير المُعلن… قد بدأ رحلته الجديدة. إن سلوكياتنا، مهما بدت صغيرة، قد تكون دروسًا لأجيال قادمة، تتسلسل عبر الزمن بصمت وتستمر في منح الفرص للأشياء، كما منحنا والدينا.