انا... صديق نفسي المقرب
رحلة في الوعي الذاتي، من مرآة البصيرة إلى دفء التعاطف
مصطفى حمد
5/26/20251 min read


حين تسأل نفسك: من يستطيع انقاذي؟
في لحظات اختناقك، حين تعجزك الحيلة، ويصبح صوتك غير مسموع لمن حولك …
من أول من يخطر في بالك لتلجأ إليه؟
صديق؟ أم قريب؟ أم شخص غريب يسمعك دون حُكم؟
ماذا لو أخبرتك أن أقرب شخص إليك… هو أنت؟
أن صديقك المقرب قد لا يكون هناك، بل هنا.
في قلبك، في صوتك الداخلي، في لحظات الصدق التي لا يراها أحد سواك.
قبل فترة، شاهدت مقطعًا لرجل يُسأل: "من صديقك المقرب؟"
أجاب ببساطة وهدوء:
"أنا. أنا صديق نفسي المقرب. أستمع لنفسي، أنصحها، أرافقها. لا أحد يفهمني كما أفهمني."
أدهشتني الإجابة، لا لأنها غريبة، بل لأنها نادرة في عالم يعلّمنا أن نبحث عن الطمأنينة في الخارج، وننسى أن نبدأ من الداخل.
"بل الإنسان على نفسه بصيرة…" – لحظة مواجهة
القرآن عبّر عن هذا العمق الداخلي بجملة واحدة تهزّ الداخل:
"بل الإنسان على نفسه بصيرة، ولو ألقى معاذيره."(القيامة: 14)
نحن نعرف...
نعرف متى تظاهرنا، ومتى خفنا، ومتى أخطأنا.
نعرف متى خذلنا أنفسنا، ومتى بعنا قناعتنا لننال قبول الآخرين.
لكننا نهرب…
نرمي الأعذار، نختبئ خلف التبريرات، نرفع أصواتنا كي لا نسمع ما بداخلنا.
هذه الآية لا تُديننا، بل تُضيء الطريق لمن يجرؤ على السير:
من يرى نفسه بصدق، يبدأ التحرر.
لماذا نخاف من صداقة الذات؟
لأننا نخاف من رؤية ما خُبّئ لسنوات.
نخاف من ذاك الطفل الداخلي الذي لم نستمع اليه يومًا، فصار يصرخ في دواخلنا بقلقٍ لا يُفهم، أو حزنٍ لا يُفسَّر.
نخاف من مرآة لا تُجاملنا، رغم أنها الوحيدة التي تستطيع أن تحبّنا كما نحن.
في ثقافتنا، تعوّدنا أن نكون أقوياء، صامتين، ناضجين… حتى على حساب أرواحنا.
لكن من قال إن مصادقة النفس ضعف؟
مصادقة النفس هي أعلى درجات القوة: أن تواجه، أن تحتضن، أن تُعيد بناء نفسك دون أن تهدمها.
كيف تكون مرآة لنفسك دون قسوة؟
الوعي الذاتي ليس محاكمة… بل صحوة.
أن ترى نفسك، بكل ما فيك، لا يعني أن تكرهها، بل أن تفهمها.
هنا بعض الأدوات التي تساعدك على هذا الطريق:
🔹 تمرين الحوار اليومي
خصص 5 دقائق من يومك لكتابة حوار صادق مع ذاتك.
اكتب كأنك تتحدث إلى صديقك المقرب، واسأل:
· "ما الشعور الذي أخفيه اليوم؟"
· "ما أكثر شيء أحتاج أن أسمعه الآن؟"
· "هل عاملتُ نفسي بلطف؟ أم قسوتُ عليها؟"
🔹 قائمة مراجعة الذات (كل مساء)
اكتب الإجابات دون تجميل، ودون جلد ذات.
- هل أنصتُّ لاحتياجاتي الجسدية والعاطفية اليوم؟
- هل قلت شيئًا سلبيًا لنفسي دون أن أنتبه؟
- هل سامحت نفسي على خطأ ارتكبته؟
- هل شعرتُ بالفخر تجاه أمر صغير أنجزته اليوم؟
رفقًا بطفلك الداخلي
في علم النفس، يُستخدم مفهوم "الطفل الداخلي" للإشارة إلى الأجزاء الحساسة والبدائية فينا، تلك التي خافت يومًا، واشتاقت، واحتاجت احتواءً ولم تجد.
عندما تصرخ مشاعرك بطريقة لا تفهمها، اعلم أن طفلك الداخلي يتكلم.
- هل تذكر آخر مرة بكيت فيها دون سبب واضح؟
- أو شعرت بأنك صغير في مواجهة موقف بسيط؟
هذا صوت الطفل الداخلي.
لا تكممه، لا تسخر منه.
بل قل له: "أنا هنا الآن. لن أتركك بعد اليوم."
تعلّم التعاطف الذاتي
الدكتورة كريستين نيف، إحدى روّاد أبحاث التعاطف مع الذات (Self-Compassion)، تثبت في دراساتها أن من يُظهر لنفسه تفهّمًا بدل القسوة، يصبح أكثر مرونة، أكثر تركيزًا، وأقل عرضة للاكتئاب.
🔸 بدل أن تقول:
"أنا فاشل، خذلت نفسي."
قل:
"أنا أتعلّم، أخطأت، وسأجرب من جديد."
🔸 بدل أن تُخفي ألمك:
"أنا بخير، لا شيء يؤثر بي."
قل:
"أنا أتألم قليلًا، وأحتاج دعمًا أو وقتًا لأهدأ."
التعاطف الذاتي ليس رفاهية… بل ضرورة نفسية.
قصة نورا – من القلق إلى الأمان
نورا، شابة في بداية الثلاثينات، كانت تعاني من قلق مستمر، رغم نجاحها في عملها.
كانت تظن أن كل ما تحتاجه هو إنجاز أكثر، رضا من الآخرين، وربما "جائزة".
لكن في جلسة تأمل موجّه، طلبت منها أن تضع يدها على قلبها، وتقول لنفسها بصوت داخلي:
"أنا هنا لأعتني بك."
فانهارت بالبكاء.
تقول نورا:
"لم أدرك كم كنت قاسية على نفسي، كم صمتُّ أمام آلامي الداخلية، واعتبرتها سخيفة. منذ بدأت أكتب لنفسي كل يوم، وأسألها ما تشعر به، بدأت أهدأ، أحنّ، أعود."
العودة إلى التراث: "من عرف نفسه… عرف ربه"
لطالما كان الوعي الذاتي جزءًا أصيلًا من تراثنا الروحي والفكري.
يُنسب إلى الحديث القدسي:
"من عرف نفسه، عرف ربه."
وهو تعبير عن أن الطريق إلى الله يمرّ من فهم النفس أولًا.
أبو حيان التوحيدي كتب:
"الناس تهرب من نفوسها، ولو جلست معها ساعة في ليلٍ صامت، لارتعشت مما سترته من نفسها."
الوعي بالنفس ليس رفاهية حديثة… بل جهاد داخلي قديم.
كلمات تُعلّق على مرآة روحك
🟫 "أنت المكان الوحيد الذي ستظل تعيش فيه إلى الأبد. اجعله وطنًا آمنًا."
🟫 "مصادقة الذات كزراعة بذرة؛ تحتاج صبرًا لترى أزهار الثقة تنمو."
🟫 "لا تطلب من العالم أن يحتويك، وأنت لم تحتوِ نفسك بعد."
تحدٍّ: هل تجرؤ أن تحب نفسك أولًا؟
الآن… خذ نفسًا عميقًا،
أغلق عينيك،
ضع يدك على قلبك،
وقل بصوت داخلي حنون:
"من اليوم، أعدك أن أكون أول من يدافع عنك،
أول من يسمعك،
أول من يحبّك كما أنت."
هذه ليست شعارات… هذه بذرة وعي،
زرعْتَها الآن، وكل ما تحتاجه هو رعاية يومية… منك، وإليك...