أنت أكثر من خطئك

رؤية قرآنية لوعي ذاتي مُتحرر

المقالات

مصطفى حمد

6/12/20251 min read

كم مرة وقعنا في فخ اختزال أنفسنا – أو الآخرين – في لحظة فشل، أو زلة ألمّت بنا؟ نُلصق بأنفسنا أو بغيرنا صفة "الفاشل"، "الأناني"، "الضعيف"، وكأن هذه اللحظة العابرة هي الحقيقة الكاملة. وكأن الإنسان لا يُرى إلا من ثقب ذلك الخطأ.

لكن القرآن الكريم، في عمقه الوجودي، لا يقبل بهذا الاختزال. بل يرسم لنا صورة مختلفة تمامًا: الإنسان جوهرٌ متجدد، قابل للنمو، يستحق أن يُنظر إليه من خلال إمكاناته، وجهوده، وأحسن ما فيه.
هذه ليست عبارات تحفيزية ناعمة، بل هي دعوة قرآنية جادّة إلى إعادة تعريف وعينا بأنفسنا وبمن حولنا. رؤية تتردّد أصداؤها في أدعية الأولياء، كما تتردد – بشكل مختلف – في أقوال الحكماء والباحثين في النفس.

فكيف نترجم هذه الرؤية إلى وعي ذاتي رحيم، نعيش به في الدنيا، ونبني به علاقات أكثر عدلاً وإنسانية؟

ثلاث مستويات لتطبيق هذه الرؤية القرآنية في حياتنا:

١. وعينا بأنفسنا: التحرر من سجن الأخطاء بالرحمة الواعية

كثيرًا ما يُحبس وعينا الذاتي في زنزانة الذنب:
"أنا ذلك الخطأ"، "أنا لا أستحق سوى اللوم"، "أنا لست جيدًا بما يكفي".

لكن هذا الشكل من جلد الذات لا يُصلح شيئًا. إنه ليس تواضعًا، بل تعذيب هادئ يُطفئ الروح، ويمنع النمو، ويغذي مشاعر الخزي والعار.

الرؤية القرآنية تقدم بديلًا عميقًا ومحررًا:
}لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا] {النجم: 31[.
تأمل هذه الآية. الله، الذي يعلم خفايا النفس، يختار أن يُقيّمنا بناءً على أحسن ما فينا، لا على أسوأ ما فعلناه. هذه رحمة، نعم، لكنها أيضًا منهج رؤية.

كيف نرى أنفسنا؟ هل نُعرّفها فقط من خلال عثراتها، أم نراها كما يراها خالقها: قابلة للتوبة، وللتحسن، وللنمو؟

ونسمع صدى هذه الرؤية في دعاء الإمام زين العابدين (عليه السلام):
"إن كنتَ لا تغفر إلا للمطيعين، فمَن للعاصين؟"
ليس إنكارًا للخطأ، بل توسّلٌ للفهم والرحمة، لمنح النفس فرصة البداية من جديد.

الوعي الذاتي الصحي لا يُنكر الخطأ، لكنه لا يختزل الذات فيه.
يقول: "نعم، أخطأت، وهذا يؤلمني... لكني لست هذا الخطأ. لدي قدرة على التغيير، وفي داخلي أحسن أستحق أن أُبصره وأبنيه."

٢. نظرتنا للآخرين: من الإدانة إلى الإنصاف

كما نختزل أنفسنا، نختزل غيرنا.
كم مرة قلنا عن شخص: "هو هكذا دائمًا"، "لن يتغير"، "فاشل"، "مشاغبة"...؟
نختصر الإنسان في لحظة، في انفعال، في صفة سلبية، ونتعامل معه على هذا الأساس.

لكن ماذا لو حاولنا أن نعامل الآخرين كما نحب أن يعاملنا الله؟
ماذا لو نظرنا إلى أحسن ما فيهم، كما نرجو أن يُنظر إلى أحسن ما فينا؟

هذه ليست دعوة لتجاهل الأخطاء، بل لتوسيع العدسة.
أن نرى الإنسان بكليّته، لا بجزئية خطئه.

حين نفعل ذلك، تتغير علاقاتنا:

- نصبح أكثر صبرًا وتفهمًا.

- نبحث عن السياق لاختيارات الآخرين، لا مجرد الحكم عليهم.

- نُبقي الأمل مفتوحًا أمام من يحاول التغير.

وفي البيئات التربوية مثلًا، يتحول البيت من ساحة توبيخ إلى مساحة توجيه،
وتتحول المدرسة من معمل تصنيفات إلى حاضنة إمكانيات،
ويغدو المجتمع أكثر احتواءً لمن يُخطئ ويحاول التعلّم.

الإنصاف الذي نطلبه لأنفسنا، علينا أن نمارسه تجاه غيرنا.
أن ترى الإنسان خلف الخطأ، هذه مهارة من مهارات الوعي الذاتي الناضج.

٣. العدالة التي تُصلح: من الثأر إلى الإصلاح

عندما نُختزِل الإنسان في زلّته، لا نظلم فردًا فحسب، بل نُشوِّه رؤية المجتمع كلّه لمعنى العدالة.
تولد من هذه الرؤية عدالة جافة، انتقامية، تُركّز على العقاب وتنسى الإصلاح.

أما الرؤية القرآنية، فرؤيتها للإنسان خلف الخطأ، تؤسس لعدالة إصلاحية رحيمة، ترى في الإنسان قابليته للاستقامة، لا فقط خطأه الماضي.

كيف تبدو هذه العدالة في الحياة؟

- في البيت: لا نحكم على الطفل من سلوك عنيف أو تصرف مرفوض. نسأل بدلًا من أن نحكم: ما الذي يشعر به؟ ما الذي يحتاجه؟ ونُعلّمه بهدوء كيف يُصلح سلوكه دون أن نخدش كرامته.

- في التربية والمراهقة: لا نُسقط المراهق الذي اختار طريقًا خاطئًا. نوفّر له احتضانًا واعيًا، ومرافقة تُبقي على جذوة الخير فيه.

- في الأنظمة والمؤسسات: لا نُعامل من ارتكب خطأ وكأنه انتهى. نبحث عن الأسباب الجذرية، ونصمّم حلولًا تُعيد دمج الإنسان، بعد تحمّله للمسؤولية، ليعود مساهمًا لا عبئًا.

العدالة ليست ضد الرحمة.
العدالة الحقّة تحتاج إلى الرحمة، لتُصلح الإنسان لا لتكسره.
الرحمة هنا ليست عاطفة عابرة، بل رؤية إصلاحية تنبع من احترام الكرامة الإنسانية.

الإنسان أكبر... والوعي أوسع

من الآية القرآنية، ومن دعاء الإمام السجاد، ومن صوت الحكمة الإنسانية، يتجلّى لنا يقين واحد:
الإنسان أكبر من خطئه، وأوسع من لحظته، وأعمق من ماضيه.

وبالتالي، بناء وعي ذاتي حقيقي يبدأ من قرار بسيط لكنه جوهري:

أن تتوقف عن اختزال ذاتك في أسوأ ما فعلت.
أن تتعلم أن ترى "الأحسن" فيك، كما يُحب أن يراك الله.
أن تُعامل نفسك بالرحمة الواعية، لا بالتساهل، بل بالصدق والأمل.

هذه ليست دعوة للهروب من الخطأ، بل لمواجهته بشجاعة دون أن نسمح له بأن يُغلق علينا باب المستقبل.

نداء ختامي:

في كل مرة تخطئ فيها…
قبل أن تبدأ بجلد ذاتك، اسأل نفسك:

ماذا لو كنت أُقيَّم – الآن – على أحسن ما فيّ؟
ماذا لو كانت هذه اللحظة فرصة لاختياري القادم، لا لحكمي النهائي؟

ابدأ من هناك... من تلك الرحمة، من ذلك الأمل.