أساليب التربية وعلم النفس: كيف يؤثر أسلوبك في تربية أطفالك؟

كشف أسرار علم نفس أساليب التربية من منظور طبيبة أطفال

مصطفى حمد

12/14/20251 min read

أساليب التربية وعلم النفس: كيف يؤثر أسلوبك في تربية أطفالك؟

كشف أسرار علم نفس أساليب التربية من منظور طبيبة أطفال

ألم تتساءل يومًا عن مدى تأثير أسلوبك في التربية على تطور طفلك ومستقبله؟ الأبحاث العلمية الدقيقة تؤكد ذلك مرارًا وتكرارًا، ومع ذلك، كثيرون منا يقلدون دون وعي أساليب تربية آبائهم. لكن لماذا هذا مهم؟ وما هي أهميته؟

تُعدّ تربية الأطفال رحلةً معقدة ومتشعبة، تُحدد بشكلٍ كبيرٍ مستقبل أبنائنا. فطريقة تربيتنا لهم تؤثر بشكلٍ واضحٍ على نموهم وحياتهم، وقد أثبتت الدراسات ذلك مراراً وتكراراً. ومع ذلك، يبدأ الكثيرون هذه الرحلة دونَ تفكيرٍ عميقٍ في أسلوبهم التربوي، مُقلّدين غالباً أنماط التربية التي نشأوا عليها دون وعي.

تتناول هذه المقالة أهمية أساليب التربية، وتستعرض أشهر هذه الأساليب، وتبحث في آثارها النفسية والعاطفية، وتقدم أسلوبًا جديدًا لخلق بيئة تربوية داعمة، حساسة، ومتكاملة لنمو الأطفال.

ما أهمية ذلك؟

قرأت ذات مرة مقال لإحدى طبيبات الأطفال، تقول فيه: بصراحة، حتى وأنا طبيبة أطفال، لم أفهم علم نفس أساليب التربية فهماً كاملاً عندما أصبحت أماً. هذا الشعور قد يكون مألوفاً للكثير من الآباء، حتى أولئك الذين يلجأون إلى خبراء. أعني، أنا طبيبة أطفال، وغالباً ما يُلجأ إليّ طلباً للنصائح التربوية، ولكنّ علم نفس التربية لم يكن جزءاً من دراستي الطبية.

تقول هذه الطبيبة: لم أقرر تجربة "المهلة" (وقت مستقطع للعقاب) مع ابني البكر إلا عندما كان عمره 18 شهرًا فقط. كما تعرفون روتين هذه القاعدة – فعل شيئًا لم يعجبني، فأجبرته على إدراك ذلك (ربما برفع صوتي قليلًا)، ثم عزلته لمدة دقيقتين. كانت تقنية سمعت عنها كثيرًا، وغالبًا ما نصحتُ بها لأهالي مرضاي عندما يواجهون مشاكل سلوكية... ظَنَنتُها طريقةً سليمة لحلِّ مشاكلنا أنا وابني وقتها، لكنَّها كانت سيِّئةً جدًّا. ما رأيتُهُ على وجهه وما أحسستُ به في قلبي لم يَكُن كما تَصَوَّرتُهُ بيني وبين ابني.

وأضافت: وصلتُ إلى هذه النقطة، بعد سنوات من تقديمي للنصائح التربوية كطبيبة أطفال، لأدرك حاجتي لفهم نفسية الأبوة والأمومة فهماً دقيقاً. كان هدفي في البداية ذاتيًا – أردتُ فقط تحسين أسلوبي في تربية أطفالي. لكن ما اكتشفته خلال مسيرتي جعلني أؤمن بأن هذه المعلومات يجب أن تكون في متناول جميع الآباء.

ما هي أساليب التربية الأربعة الأكثر شيوعًا؟

يُقسّم علماء النفس أساليب التربية إلى أربعة أنواع رئيسية، مستندين إلى أبحاث ديانا باومريند، مع تطويرات لاحقة من ماكوبي ومارتن. تختلف هذه الأساليب في طرق التأديب، وأساليب التواصل، ومستوى الرعاية، والمتطلبات. سنسلّط الضوء على كل أسلوب على حدة:

1- التربية المهملة

يُعرف الإهمال الأبوي بأنه قصور في رعاية الطفل، سواءً كان ذلك ناتجًا عن عدم اهتمام أو جهل بكيفية التربية الصحيحة. ففي بعض الأحيان يكون الوالدان مدركين لهذا الإهمال، لكن في معظم الأحيان يكون ذلك بسبب عدم معرفتهم أو عدم اكتراثهم. يتمثل هذا الإهمال في قلة القواعد، وعدم وجود هيكل تنظيمي، ونقص المودة والحنان. التواصل ضعيف، والرعاية قليلة، والأهداف والطموحات منخفضة أو معدومة.

الأطفال الذين يكبرون في بيئات مهملة، غالباً ما يتركون لمصيرهم، بإرشاد أو رقابة ضئيلة. يتعرضون لخطر الأذى الجسدي بسبب قلة الرقابة، كما يواجهون مخاطر نفسية. يعاني هؤلاء الأطفال عادةً من الاكتئاب، ويجدون صعوبة في بناء علاقات قوية، ويظهرون سلوكاً عدوانياً، ويميلون إلى الانعزال عن الآخرين.

يُمكن أن يكون إهمال الوالدين ضارًا جدًا لدرجة أنه قد يُؤدي إلى سحب الأطفال من أسرهم من قِبل الجهات المختصة في بعض الدول.

2- التربية المتساهلة

يمتاز أسلوب التربية المتساهلة بمنح الأطفال مساحة واسعة من الحرية في اتخاذ القرارات، والسماح لهم بالتعبير عن أنفسهم بحرية دون قيود صارمة. يُفضل هؤلاء الآباء تجنب فرض قواعد مُشددة قد تؤدي إلى إحباط أطفالهم. وعلى الرغم من التواصل المفتوح، إلا أنهم يميلون إلى تجنب إعطاء توجيهات مباشرة. يُظهر هؤلاء الآباء حناناً ودفئاً، لكنهم لا يضعون معايير عالية للأداء أو السلوك.

في الوهلة الأولى، يبدو هذا الأسلوب التربوي كأنه علاقة ودية بين الأبوين والطفل، مليئة بالدفء والحنان. لكن، إذا تمّ اتباعه بشكل مُفرط، مع قلة أو انعدام للحدود، وقليل من التوجيه، فإنّ الأبحاث تُشير إلى عواقبه السلبية على المدى الطويل. من الممكن أن يعاني الأطفال الذين يعيشون في أُسرٍ متساهلة من مشاكل في ضبط مشاعرهم، وأن يصبحوا عنيدين بشكل مفرط عند عدم نيل ما يريدون، وأن يستسلموا بيسر عند مواجهة العقبات، وأن يقعوا في سلوكيات اجتماعية ضارة كإدمان المخدرات أو الكحول.

3- التربية السلطوية

«لأنّي قُلتُ ذلك». كثيرٌ منّا سمع هذه الجملة في طفولته، وربما استخدمناها كآباءٍ لاحقاً. يُميّز أسلوب التربية السلطويّ التصرّف الديكتاتوريّ، حيثُ يُتوقّع من الأطفال الطاعة العمياء دون أيّ تفسير. القواعد مُشدّدة وغير قابلة للنقاش، ويُعتمد على العقاب للحفاظ على النظام.

في البيوت التي يحكمها النظام السلطوي، يكون إظهار المودة محدودًا، والتواصل غالباً ما يكون من جانب واحد (من الأهل إلى الطفل)، وضغط كبير مع مساحة ضئيلة للمناورة. الأطفال الذين يكبرون في هذه الأجواء قد يجدون صعوبة في اتخاذ القرارات بمفردهم، والتفرقة بين الصحيح والخطأ بدون مساعدة خارجية، وقد يعانون من انعدام الثقة بالنفس، ويعتمدون على موافقة من هم في السلطة.

من الجوانب اللافتة للنظر في التربية الاستبدادية أن الدراسات أظهرت أن السلوك "الجيد" لا يدوم غالبًا إلا بوجود الوالد. فعندما لا يكون الأطفال تحت المراقبة، قد يتصرفون بشكل غير لائق أو يخالفون القواعد.

4- التربية الحازمة

إذا لم تجد نفسك في أي من أساليب التربية الثلاثة المذكورة، وتريد اسلوب يراعي رفاهية طفلك ونموه على المدى البعيد، فإن أسلوب التربية الحازمة قد يكون أكثر ملاءمة لتطلعاتك.

في البيوت التي تمارس فيها السلطة الابوية بحكمة، يتحقق توازن دقيق بين النظام الصارم والاستقلالية المُمنوحة للأطفال، ما يُمكّنهم من النمو ضمن إطار وحدود مُحددة مع تشجيعهم على استكشاف قدراتهم. ويُرسّخ الآباء في هذه الأسر منظومة قيم مشتركة، ويُقدمون الدعم العاطفي الذي يُعزز الثقة المتبادلة. هناك مجالٌ للخطأ، ويُتاح للأطفال ارتكاب الأخطاء دون خوف من اللوم أو العقوبة، ضمن بيئة تربوية توفر لهم التوجيه اللازم.

في الأسر التي تُمارس فيها السلطة الوالدية بشكلٍ صحيح، يُشجَّع الأطفال على طرح الأسئلة حول الأوامر والطلبات، ويبذل الآباء جهدًا لشرح الأسباب بطريقةٍ مفهومة للأطفال. الهدف من التأديب هنا هو الدعم والتوجيه، وليس العقاب. على عكس العواقب السلبية المرتبطة بالأساليب التربوية المُهملة، والمتساهلة، والاستبدادية، يُعتقد أن أسلوب التربية الحازمة يُؤدي إلى نتائج إيجابية بشكل كبير. فهو يُساعد الأطفال على بناء الثقة بالنفس، وتحمل المسؤولية، والتغلب على الصعاب، واكتساب الثقة في حكمهم الخاص.

أسلوب والد وما ولد في تربية الأبناء وفق منهج التربية الواعية

دعونا نتعمق في نموذج تربية ثوريّ يضيف بعداً جديداً: أسلوب الوالدية الواعية. فبالرغم من شيوع التوصية بأسلوب التربية الحازمة من بين الأساليب الأربعة السابقة، إلا أنه يركز أيضا على ضبط سلوك الطفل فقط.

بينما يتّسم أسلوب التربية الواعية من والد وما ولد بالتركيز على الوالدين، وبالتحديد على وعيهم بدورهم الوالدي، وإدراك كيفية تفاعلهم معهم، ودعمهم لهم، وفي نفس الوقت يضعون لهم حدود صارمة. فهنا لا يسعى الوالدان للتحكم بسلوك الأطفال بشكل مباشر، ولكن من خلال شرح القواعد، والحوار، والمنطق. يُنصِتون لرأي الطفل، لكنهم لا يقبلونه دائمًا.

اذن، تتمثل السمة المميزة لهذا الأسلوب في الوعي الذاتي للمربي - ليس استخدام أدوات وتكتيكات للتحكم في سلوك الطفل، بل المشاركة في إيجاد حلول ومعالجة مشاعره واحتياجاته، مع الالتزام بقيم الأسرة وحدودها.

تُستخدم في الأسلوب التربوي القائم على الاستخدام الحكيم للسلطة (التربية الحازمة) أدوات قيّمة لتنمية الطفل إيجابياً، لكن الهدف الأسمى يبقى تحقيق ما يريده الأبوان، حتى لو تطلب ذلك تجاهل الاحتياجات العاطفية العميقة للطفل.

إنّ التحوّل في أسلوب التربية الواعية يكمن في عدم السعي للسيطرة على مشاعر الطفل أو ردود فعله. يجب التنويه على أنّ هذا الأسلوب يختلف تماماً عن التربية المُتساهلة. ببساطة، هو أسلوب تربية يعتمد على المشاركة الفعّالة مع الأطفال، حتى في المواقف العاطفية الصعبة، مع وضع حدود مناسبة لأعمارهم، وترك مساحة للعواقب الطبيعية لتظهر.

بفضل أدوات الوالدية الواعية في التعاطف، والتنظيم الذاتي العاطفي، وفهم تطور دماغ الأطفال وعلم الجهاز العصبي، يستطيع الآباء الواعون تلبية احتياجات أطفالهم بشكل فعال والمشاركة في خلق جو من السلام دون اللجوء إلى فرض السيطرة..

في هذا المنهج الواعي، يتلاشى السلوك الإشكالي لأن جميع الاحتياجات، سواء للطفل أو الوالدين، تُلبى. فعندما يحافظ الوالدان على تنظيم انفعالاتهما، مدركين أن سلوك أطفالهم مناسب لمرحلتهم العمرية، يستطيع الأطفال التكيف مع حالة الهدوء التي يشعر بها الوالدان.

نحن ​​كبالغين، لدينا القدرة على تمكين أطفالنا ومساعدتهم على تحقيق الأمان النفسي من خلال توفير بيئة آمنة لهم. عندما تُلبى جميع احتياجاتهم، يزدهر شعور بالهدوء والتواصل والتعاون بين الوالدين والطفل.

ماذا الآن؟

إن فهم أسلوبك في التربية والتأمل في مدى توافقه مع قيمك الاسرية والدينية، وموائمة تطلعاتك مع اسلوبك التربوي، يُعد خطوة أولى مهمة في رحلة الأبوة والأمومة. من المهم أن ندرك أن معظمنا قد مرّ بتجارب تربوية مختلفة خلال طفولته، وأن هذه التجارب تؤثر بشكل كبير على كيفية تفاعلنا مع أطفالنا.

على سبيل المثال، قد يكون الآباء الذين يميلون إلى أسلوب التربية المتساهل قد نشأوا في بيوت ذات نظام تسلطي، فيختارون عن وعي مسارًا مختلفًا لأبنائهم. هذا التأثير المتأرجح ليس نادرًا، إذ يسعى الأفراد غالبًا إلى تجنب تكرار أسلوب التربية الذي عايشوه في طفولتهم.

إذا وجدت نفسك كوالد تلجأ باستمرار إلى أسلوب تربية لا يتوافق مع نواياكِ الحقيقية، فاطمئن إلى أن التغيير ممكن. لقد مررتُ شخصياً بتحوّل في مسيرتي التربوية. فبينما كنتُ أتوق بشدة لأن أكون اباً هادئاً، وجدتُ نفسي أقضي وقتاً أطول في الصراخ والسيطرة، أشبه بالأبوة المتسلطة أو المتشددة، أكثر مما كنتُ أرغب.

لقد تحققت تحولاتي بفضل الرؤى القيّمة التي اكتسبتها في والد وما ولد. لم تُغيّر هذه الرحلة علاقتي بأبنائي وجو منزلي فحسب، بل أثرت أيضاً على جميع جوانب حياتي. أقول هذا عن قناعة تامة، فقد كانت تجربة غيّرت مجرى حياتي.

إذا كنت تتوق إلى تبني نهج أكثر وعي وتأثير في تربية الأبناء ولكنك لست متأكدًا من أين تبدأ، فقد يكون والد وما ولد للوالدية الواعية هو نقطة البداية المثالية لرحلتك نحو أن تصبح الوالد الذي تحلم أن تكونه لطفلك.

بغض النظر عن أساليبك التربوية الحالية، من المهم أن تدرك أن لديك القدرة على تهيئة بيئة صحية مثالية لأطفالك، ولك أيضاً، لكي يزدهر الجميع. بل يمكنك أن تخطو خطوة أبعد وتصبح مدرباً والدياً، تُساعد الآخرين في رحلتهم نحو تنمية شاملة للآباء والامهات واطفالهم في أسلوب تربية واعية ومؤثرة.