أثرٌ لا يُنسى: حين يهمس الذكاء العاطفي في تفاصيل حياتنا

مقال تأملي يسلّط الضوء على قوة الذكاء العاطفي في تفاصيل الحياة اليومية، من خلال مواقف واقعية ولمسات إنسانية تترك أثرًا لا يُنسى. دعوة رقيقة لأن نكون أكثر وعيًا في تعاملنا مع من حولنا

مصطفى حمد

5/8/20251 min read

لا أتذكر ما قيل لي في معظم المحادثات.
لكنني أتذكر جيدًا كيف شعرت.
تلك القشعريرة الخفيفة من كلمة قاسية قيلت بلا تفكير...
أو ذلك الدفء الذي غمرني من ابتسامة صادقة، لا لشيء، فقط لأنها جاءت من شخص رآني. واشعرني به فعلاً.

الذكاء العاطفي؟
لا أراه شيئًا يُدرّس في الدورات أو يُعلق على سبورة في شكل قوائم.
أراه في امرأة أوقفت حديثها لتلتفت متلهفة لطفلها وعيناها يسعان العالم، فقط لأنه أراد أن يريها رسمة.
أراه في أبٍ تنبّه لنبرة صوته وهو يوبّخ ابنه، فتراجع وتنهد وقال: "آسف، لم أقصد أن أُرعبك... لقد كنت قلقًا عليك."
أراه في صديق لاحظ أنك غبت بصمت عن المجموعة، فأرسل لك لاحقًا: "بس حبيت أقولك ان مكانك كان فارغ."

هذه التفاصيل، الصغيرة جدًا لدرجة أن أحدًا لا يلاحظها أحيانًا،
هي ما يجعلنا نشعر بالأمان... أو بالخوف.
بأننا محبوبون... أو منسيون.

في إحدى المرات، كنت أُحدّث الى ابي عن شيءٍ ضايقني،
وقاطعني ليرد على اتصال. لم يكن الاتصال طارئًا.
لكنني وقتها تعلمت درسًا لم يُدرّس لي في أي مكان:
أن الشعور بعدم الأهمية يمكن أن يأتي من أبسط الأماكن.
لا أتذكر ماذا كنت أقول له.
لكنني أتذكر تمامًا إحساسي وأنا أختفي في عينيه، وهو يُشيح بنظره عني.

في المقابل، أتذكر جيدًا موقفًا مع استاذتي في الجامعة.
كنت قد تغيبت بسبب ظرف صعب، وكنت أستعد لأبرر لها موقفي وغيابي.
لكن قبل أن أتكلم، قالت: "إذا كنت تحتاج مساحة، فخذها. كلنا نمر بأيام كهذه. لا بأس."
لم تُسأل عن خلفيتي النفسية، ولم تُدرّس الذكاء العاطفي على الأرجح،
لكنها جسّدته بتلك الكلمات البسيطة. وما زلت أذكرها حتى اليوم.

العلماء يعرّفون الذكاء العاطفي بأنه القدرة على التعرف على مشاعرك ومشاعر الآخرين، وتنظيمها بطريقة فعّالة.
لكنني أُفضّل تعريفًا آخر، أقل تقنيةً، وأكثر حياة:
هو أن تتوقف قليلاً قبل أن ترد، فقط لتسأل نفسك: "هل ما سأقوله سيُنير أم سيُطفئ؟"
هو أن تلاحظ عندما يرتبك ابنك فجأة، لا تلومه، بل تتساءل: "هل هناك شيء قلته جعل قلبه يختنق؟"
هو أن تدرك متى تكون جزءًا من عبء أحدهم بدل أن تكون سندًا له، فتنزاح قليلاً، بصمت.

في إحدى المرات كنت اسير في السوق وقلبي مثقل بهمومه، وبالصدفة ابتسم لي شخص ابتسامة صغيرة، ولكن أثرها كان كبيراً.

لا أذكر اسمه ولا شكله تمامًا، لكنني أتذكر شعوري، كيف أنني شعرت أن قلبي أصبح أقل ثقلاً في تلك اللحظة.
وكأنني تلقيت لمسة إنسانية في قلب الزحام.
تذكرت الحديث النبوي: "تَبَسُّمُكَ في وجهِ أخيكَ صدقةٌ."

ابتسامة واحدة قد تكون بمثابة صدقة تضيء يومًا مظلمًا. ربما لم يكن هذا الشخص يعرف ما الذي مررت به في تلك اللحظة، ولكن ابتسامته كانت كافية لتُذكرني أن هناك دائمًا من يتفهم، حتى وإن لم يتحدث.

لا أحد يتوقع أن يكون هو الشخص الذي يُغير يومك، لكن الأفعال الصغيرة تحدث فرقًا كبيرًا.
والابتسامة، كما نعلم جميعًا، قد تكون بداية لتغيير كبير في القلب.

هناك لحظات في الحياة لا نُدرك فيها حجم تأثيرنا على من حولنا.
نُلقي كلمات كالعُملة، لا نعلم أن بعضها يسقط على قلوب هشة،
وبعضها يُنبت فيهم شجاعةً للبقاء يومًا آخر.

الذكاء العاطفي ليس أن تكون مثاليًا.
بل أن تكون صادقًا مع نفسك، ومتواضعًا في اعترافك بأنك لا ترى الصورة كاملة دومًا.
أن تفهم أن كل شخص تراه يحمل معه قصةً غير مكتملة،
وأحيانًا لا يحتاج لمن يفهمها، بل لمن لا يُزيد تعقيدها عليه.

في عصر تتسابق فيه الأصوات لتكون هي من يقول او يتكلم،
اختر أنت أن تكون الشخص الذي يصغي.
في عالمٍ يُمجّد سرعة الرد،
اختر انت أن تتأنّى، أن تراقب، أن تُحسّ قبل أن تحكم.

لأن الحقيقة؟
لا أحد يتذكر كل ما قُلته،
لكنهم سيتذكرون كيف جعلتهم يشعرون.

وفي لحظة ما، بعد سنين، ربما يقول أحدهم:
"لا أعرف لماذا ارتحت له... لكني شعرت أنني إنسان وأنا معه."
وهذا، وحده، كافٍ.