بين المرايا والنجوم

رحلة الوعي التي رسمت حياتي

المقالات

مصطفى حمد

3/22/20251 min read

بين المرايا والنجوم... رحلة الوعي التي رسمت حياتي

لا أعرف هل أبدأ قصتي من اللحظة التي أصبحت فيها مرآتي صافية تعكس حقيقتي بوضوح، أم من تلك السنوات التي كنتُ أبحث فيها عن نفسي في مرايا مكسورة، تُعيد إليَّ صورةً مشوَّهة لا تشبهني؟ كنتُ أظن أنني أفهم ذاتي جيدًا، لكن الحياة أثبتت لي العكس. أحيانًا كنتُ أتصرف بوعي، وأحيانًا أخرى كنتُ مجرد انعكاسٍ للأحداث، دون أن أدرك ذلك.
كان وعيي بذاتي اليد التي جمعت شظايا تلك المرايا، قطعةً-قطعة، حتى رأيتُ نفسي أخيرًا كما أنا، بلا أوهام. لم يكن الأمر بهذه السهولة. كنتُ بحاجة إلى شجاعةٍ تمسح الغبار المتراكم على روحي، إلى صمتٍ يسمح لي أن أسمع صوتي الحقيقي، وإلى ضوءٍ ينير زواياي المعتمة.
حين بدأتُ أفهم ذاتي، تغيّرت نظرتي للحياة. لم يعد النجاح مجرد أهدافٍ أحققها، بل رحلةً أسيرها بوعي. أدركتُ أنني حين أفهم أفكاري ومشاعري ودوافعي، أستطيع أن أختار بوضوح، أن أتحدث بصدق، وأن أعيش وفقًا لما أريده حقًا، لا وفقًا لما يمليه عليَّ الآخرون.
المرايا المكسورة: سنوات الضياع
قبل أن أكتشف ذاتي، كنتُ كمن يتجول في متاهةٍ بلا خريطة، أبحث عن إجاباتٍ في عيون الآخرين، وأقيس قيمتي بانعكاساتٍ زائفة. كنتُ أظن أنني أتحكم في حياتي، لكنني في الحقيقة كنتُ أسير وفق إيقاع العالم، لا وفق لحن روحي.
البوصلة الداخلية: اكتشاف الاتجاه
في عملي، كنتُ كالسفينة بلا بوصلة. أُبحر وسط المهام، أُدير الاجتماعات، وأحقق الإنجازات، لكنني لم أكن أعرف إلى أين أمضي. كنتُ أظن أن النجاح سلسلة أهدافٍ تُحقَّق، حتى أدركتُ أنه ليس مجرد وصول، بل اتجاه.
أتذكر ذلك اليوم في الاجتماع، حين اعترض زميلي على مقترحي بنبرةٍ حادة. شعرتُ بحرارةٍ تصعد إلى وجهي، ويدي الباردة تقبض القلم بارتباك. كاد لساني يطلق دفاعه المعتاد، لكنني سمعتُ شيئًا آخر، شيئًا جديدًا:
"هل أنت قائد أم خائف؟"
سكتُ للحظة… كان السكون في الغرفة يضغط على صدري، لكنني اخترتُ أن أتنفس، أن أسمح لموجةٍ من الضوء أن تخترق ظلام شكوكي.
نظرتُ إلى زميلي وقلتُ بهدوء: "أفهم وجهة نظرك… لكن ماذا لو جربنا هذا الحل؟"
كانت تلك اللحظة مفتاحًا لفهمي أن النجاح لا يُقاس فقط بما أُنجزه، بل أيضًا بكيفية تعاملي مع المواقف، وكيف أسمح لها أن تشكّلني. حين وجدتُ بوصلة الوعي، لم أعد أركض بلا هدى، بل صرتُ أمشي بثبات، نحو ما أختاره بوعي.
الإصغاء: حين تتحدث الأرواح قبل الألسنة
في علاقاتي، كنتُ أتحدثُ كثيرًا، لكنني لم أكن أصغي حقًا. ظننتُ أنني أفهم الآخرين، لكنني في الحقيقة لم أكن أفهم نفسي بما يكفي.
قال لي صديقي ذات يوم: "أشعر أنك تستمع لترد… لا لتفهم."
كانت كلماته كمرآةٍ أرغمَتني على رؤيةِ صدى صوتي.. صوتٌ كانَ يُكررُ كلامَ الآخرين، لا يُصغي لقلبي.
عندها، تعلمتُ أن الإصغاء الحقيقي لا يبدأ بالأذن، بل بالقلب.
الآن... مرآتي تعكسُ النجوم
الوعي الذاتي علّمني أن الفهم لا يُولد في زحام الأصوات، بل في لحظات الصمت حيث نحاور ظلالنا. هو الجسر الذي مررتُ عليه من "مَن أريد أن أكون" إلى "مَن أنا كما أنا". لم يعد النجاح حلمًا أطارده، بل بصمة أتركها، بصمة لا تشبه إلا قلبي.
قبل الوعي، كنتُ مجرد صدى، أركض وفق إيقاع الآخرين، أبحث عن رضاهم، وأحاول أن أنتمي إلى عالمٍ لم أنتمِ إليه يومًا. حتى جاء اليوم الذي توقفتُ فيه عن الركض على ايقاع لا أشعر به، وجلستُ في صمتٍ، أستمع لصوتي المختبئ تحت الركام.
الآن… مرآتي صقيله تعكسُ نجومًا كنتُ أحملها في أعماقي دون أن أدري، وبوصلةٌ اختطَّتْ لي دربَ الإبحارِ مِن شاطئِ الذاتِ إلى محيطِ الحياة.