دعاء والدتك لا يزال يحميك

تأمل في أثر دعاء الأم الخفي والمستمر، حتى بعد رحيلها، وكيف رافقني كرحمة لا تغيب.

المقالات

مصطفى حمد

5/18/20251 min read

هناك شيء في هذا العالم لا يراه أحد سواك، وحتى إن رآه، لن يشعر به كما تشعر به أنت.

كأن ترى والدتك واقفة عند النافذة، بعد زمن طويل من خروجك، تهمس باسمك في هواء الليل، وكأنها تريد للريح ان تحمل حبها ودعاءها إليك قبل أن تعود إلى المنزل.

كأن تجلس في ضوء المطبخ الخافت، يداها مطويتان، أنفاسها خافتة، تهمس لله أن يحفظك ويسلّمك. تدعو لك بلسانها، وبقلبها، وبصمتها أيضًا.

دعاؤها ليس مجرد كلمات تُقال. إنه صلاة تُطلق من قلب خائف، لكنه مليء باليقين.

إنها لا تدعو لك بالسلامة فقط، بل لقلبك الرقيق أيضًا…

تتوسل إلى الله أن يبقى لينًا رغم قسوة العالم، وأن يبقى فيك من الرحمة ما يكفيك ويكفي من حولك.

أمهات كثيرات لا يعرفن التعبير بالكلمات، لكن قلوبهن تفيض بالدعاء.

دعاؤها لا يُحكى دائمًا بصوتٍ مسموع، لكنه يُرفع في لحظة خفية، في مكان ما، دون أن تدري…

وفي اللحظة التي تظن أنك تهوي، تحملك يد خفية… وتنجو.

هي تحفظ صوت ضحكتك، وتعرف تفاصيل وجهك حين تتعب، وتستشعر وحدتك حتى لو لم تقل شيئًا.

وحين تشعر بالتيه، بالحزن، بالثقل الذي لا يُحتمل، تستجيب السماء لندائها القديم…

في حادث نجاك الله منه، في طريقٍ وجدت نفسك فيه، في لحظة انهيار ثم تماسك مفاجئ.

أحيانًا تجلس على أرض الحمّام، تظن أن قلبك لن يحتمل أكثر… وأنك وصلت إلى الحد الذي لا يُطاق…

لكن، ولسبب لا تفهمه، تقوم وتكمل.

لعلها صلاتها، تلك التي سبقتك، وظلت ترافقك، دون أن تدري.

أمهاتنا يُصلين لنا بطرق قد لا نلاحظها:

بوضع شطيرة إضافية في حقيبتك دون أن تسأل. باتصال مفاجئ حين تكون في أمسّ الحاجة لصوت مطمئن. بسكوتها عن لومك، رغم قلقها العميق عليك. بتفقدها لك في نومك، بدفء الغطاء، بلمسة اليد على جبينك.

تُصلي لك بحبها، حتى إن رحلت… فالحب لا يُدفن، والدعاء لا ينتهي.

حب الأم لا يفنى. لا يتلاشى في التراب مع جسدها، بل يبقى…

يبقى في تجاويف صدرك، بين فراغات أضلاعك، في صدى صوتها حين تسمع لحنًا كانت تدندن به، في طريقتك بتفقد الموقد قبل مغادرة المنزل، لأنها كانت تفعل ذلك.

دعاؤها لا يحتاج إلى قرب الجسد، ولا إلى حضور الصوت.

إنه يسري في الهواء… في ذاكرتك… في توقيت النَجدة التي تأتي فجأة.

حتى عندما تبتعد، أو تبتعد هي عنك، حتى عندما لا تناديها "يا أمي" كما كنت تفعل صغيرًا…

تبقى هناك صلاة قديمة، محفوظة لك في كتاب السماء، تُستجاب حين لا تتوقع.

أنا… وبعد سنوات طويلة من رحيلها، حين أكون في أقصى لحظات ضعفي…

عندما أشعر بالضياع، بالوحدة، بالانفصال… أشعر بدعائها حاضرًا.

كأن هناك دفئًا لا أعرف مصدره، حنانًا لا يُرى، سندًا يقف خلفي.

كأن هناك يدًا تُمسك بقلبي وتطمئنه، وهمسًا يقول: "أنا معك"، رغم أن لا أحد هناك…

حينها، أقسم، أنى أشعر بها.

إنها هي… أمي.

أعرف معنى فقد الأم، لأني فقدتها قبل سنين، ومنذ رحيلها، لم يعد العالم كما كان، تحوّل كل شيء إلى ظلال رمادية.

كأن الضوء انكسر، كأن الزمن توقّف عند لحظة الوداع. أيام كاملة من حياتي لا أتذكرها، وكأن ممحاة الحزن محت ذاكرتي.

لكن، في كل مرة أرى فيها أمًّا – أي أم، مهما كان عمرها – أرى ألوان العالم من جديد.

فبمجرد أن توجد الأم، حتى وإن لم تكن أمي، يصبح العالم أكثر رقّة ورحمة ولطفًا… وأسهل تحمّلًا.

لا تستهِن أبدًا بدعاء أمك.

إن كانت لا تزال على قيد الحياة، فاقترب منها أكثر…

اسمع صوتها، احفظه في قلبك، تأمل عينيها حين تنظر إليك… وردّ عليها حين تدعو لك… وقل "آمين" من أعماقك.

وإن كانت قد رحلت… فلا تظن أن الدعاء قد انقطع.

فالأمهات لا يتوقفن عن الصلاة من أجل أبنائهن، حتى بعد أن يودّعن الحياة.

دعاؤها لا يحتاج إلى صوت، ولا إلى جسد.

إنه يسير في الهواء، يتسلّل إليك في لحظة انكسارك، حين لا تملك القوة لتكمل.

دعاؤها يكون معك حين لا يكون أحد.

حين تغمض عينيك وتهمس: "يا رب"،

ويستجيب الله…

لأن هناك دعاءً سابقًا سبقك، وسبقتك محبته.

دعاؤها قد لا يُسمع… لكنه يُستجاب.

وقد لا يُرى… لكنه يحملك في الخفاء.

فلا تنسَ أبدًا:

دعاء والدتك لا يزال يحميك… حتى لو لم تعد هنا… حتى لو لم تناديها بصوتٍ مسموع منذ زمن: "يا أمي"