قبل بضع سنوات، وجدت نفسي على مفترق طرق إجباري. فقدت عملي الذي مارسته لأكثر من خمسة وعشرين عامًا. لم تكن وظيفتي مجرد منصب أو مسؤوليات أقوم بها، بل كانت العنوان الذي أقدّم به نفسي، والهوية التي أرتديها أمام العالم… وربما أمام نفسي أيضًا.
لكن ماذا يحدث حين تُسحب هذه الهوية؟ من نكون حين لا يعرفنا أحد؟
الصدمة الأولى: حين يهتز العنوان، تتزلزل الذات
بعد فقدان عملي، بدأت أواجه مواقف مربكة. يسألني أحدهم ببساطة:
"ماذا تعمل؟"
فأتردد… ليس لأنني بلا شيء أفعله، بل لأني لم أعد أعرف بأي اسم أُعرّف نفسي. أدركت – ربما لأول مرة – أنني كنت أساوي بين "ما أفعله" و "من أكون". بل إنني ربطت "قيمتي" بالكامل بـ "موقعي الوظيفي".
الهوية كقناع: ماذا يحدث حين يسقط؟
يعتقد عالم النفس كارل يونج أننا نرتدي "أقنعة" نُظهر بها أنفسنا أمام العالم. والعمل – بالنسبة للكثيرين – هو القناع الأشد لمعانًا.
لكن، ماذا يحدث حين يُنتزع هذا القناع فجأة؟
أشهرٌ طويلة جلستُ خلالها في مكتبي المنزلي، أُوهم نفسي بأن لديّ اجتماعات، فقط لأخفي ارتباكي. كنتُ أردد في سرّي:
"من أكون إن لم أكن ذلك الرجل ذو اللقب؟ ماذا أفعل الآن؟"
كان الفراغ مرعبًا، لكنه في الوقت نفسه نافذة لاكتشاف ما غفلت عنه لسنوات.
حين تختزل الهوية في بطاقة عمل
لا تكمن مرارة فقدان الوظيفة فقط في خسارة الدخل أو الروتين، بل في انهيار القصة التي بنينا بها ذواتنا.
صاغ عالم الاجتماع إيرفينغ جوفمان مصطلح "الانغماس في الأدوار" لوصف كيف يمكن لدورٍ واحدٍ أن يُهيمن على شعورنا بالهوية. وعندما يُسحب هذا الدور، يبدو الأمر وكأننا نُقتلع من جذورنا.
الصدمة تكشف الحقيقة:
إذا كانت هويتك ترتكز على وظيفتك، فإن فقدانها لن يُربكك فحسب، بل قد يُحطمك.
لحظة الصمت: بداية الوعي
أتذكر جيدًا دخولي غرفًا لا يعرفني فيها أحد. لم أعد أملك لقبًا يسبق اسمي، ولا إنجازًا يعرّفني. شعرت بالخوف، كأنني أقف عاريًا أمام نفسي.
وهناك، بدأت أطرح الأسئلة الأصعب:
- لماذا اخترت تلك الوظيفة؟
- ما الذي كنت أبحث عنه حقًّا من خلالها؟
تذكّرت قول الإمام علي عليه السلام:
"قيمة كل امرئ ما يحسنه."
وبدلًا من الهروب إلى دور جديد، جلست مع نفسي أسأل:
- ما الشيء الذي يهمّني حتى لو لم يُدفَع لي مقابله؟
- ما اللحظات التي شعرت فيها بالامتلاء دون انتظار شهادة تقدير؟
الغاية لا تسقط بفقدان الوسيلة
أدركت شيئًا جوهريًا:
شغفي الحقيقي لم يكن "المسمى الوظيفي"، بل تمكين الناس من أن يكونوا أفضل نسخٍ من أنفسهم.
كانت الوظيفة مجرد وسيلة لتحقيق ذلك، أما الغاية فبقيت… حتى بعد سقوط الوسيلة.
هذا المعنى ترسّخ أكثر حين التقيت بصديق قديم كان أستاذًا للفيزياء. وجدته يعمل في منظمة تُعنى بعلاقة الآباء مع أبنائهم المراهقين. سألته عن هذا التحوّل، فقال:
"كنت قائدًا تربويًا… والفيزياء لم تكن سوى وسيلة، وليست غاية."
حينها أدركت: لسنا ما نفعله، بل ما نحيا من أجله.
اليوم، حين يسألني أحدهم: "ماذا تعمل؟"
أبتسم، وأقول شيئًا مثل:
- "أكتب قصصًا تساعد الناس على فهم ذواتهم."
- "أصغي لمن يريد أن يرى نفسه دون أقنعة."
- أو ببساطة: "أحاول أن أساعد."
لم أعد أبحث عن تعريف يُبهر أو يُرضي. اللقب أصبح مجرد "باب"، أما الغرفة الحقيقية فهي ما تُضيئه حين تدخل إلى قلبك.
فقدان الوظيفة… نعمة مقنعة
قد لا يبدو الأمر كذلك في بدايته، لكن فقدان الوظيفة أزمة وجودية أكثر منها لوجستية. إليك خارطة الطريق التي ساعدتني على العبور، لعلها ترشدك إن مررتَ بتجربة مشابهة:
خارطة العودة إلى الذات
1. المواجهة
· لا تهرب من الفراغ، بل واجهه.
· لا تملأه سريعًا بألقاب مؤقتة.
· اكتب مشاعرك، تحدّث مع من مرّ بتجارب مماثلة.
· اسمح لنفسك بالحزن، ولكن لا تمكث فيه طويلًا.
2. الاكتشاف
· ما الذي كنت تحبه قبل أن تدخل مضمار العمل؟
· ما الذي يجعلك تنسى الوقت حين تفعله؟
· من تكون عندما لا يراك أحد؟
3. إعادة البناء
· تَطوّع.
· تعلّم شيئًا جديدًا.
· ابدأ مشروعًا للمتعة فقط.
هذه الخطوات ليست بديلاً عن وظيفة، لكنها بوابة إلى سردك الجديد.
4. إعادة تعريف القصة
كل يوم، لدينا فرصة لنكتب جزءًا جديدًا من هويتنا، دون لقب، دون سيرة ذاتية، فقط بما نحسنه، ونُحبه، ونعيشه بصدق.
✨ في الختام...
في المرة القادمة، حين يسألك أحدهم: "من أنت؟"
لا تتسرع في الجواب.
توقّف واسأل نفسك:
- ما الذي تجاهلته من ذاتي؟
- ما الذي يستحق أن أستكشفه اليوم؟
- من أريد أن أكون… حقًا؟
أنت لستَ مجرد بطاقة عمل، بل قصة تنتظر أن تُروى.
ابدأ بكتابتها.