هل البحث عن الذات خيانة للجذور؟
عندما تصطدم رحلتك للبحث عن ذاتك بالأعراف والتقاليد الاجتماعية
مصطفى حمد
4/6/20251 min read


- داليا (18) سنة من حلب. تريد اكمال دراستها بينما تحاول أمها تزويجها بضغط من اخوها الأكبر واعمامها.
- عائشة (20) سنة من الرياض. يرفض والدها ان تدرس علم النفس ويريد لها ان تصبح معلمة.
- هاشم (24) سنة من بغداد. يريد العمل الحر ولكن والده يفضل ان يبحث عن تعيين في وظيفة حكومية.
- جاد (30) سنة من صور. يفضل الانفصال عن والده في العمل ويؤسس عمله الخاص فتتهمه عائلته بالأنانية والعقوق.
- احمد (45) من الإسماعيلية. يريد التحول الى الزراعة المائية وترك العمل في زراعة الأرض مع والده واخوته، فيواجه انتقادات شديدة من أصدقائه وأبناء قريته.
ذنب هؤلاء جميعاً، انهم حاولوا البحث عن ذواتهم وارادوا عيش حياتهم وفق قيمهم الشخصية، فوجهوا بالنقد والتخوين واصطدموا بالهياكل الاجتماعية والعائلية التقليدية بكل توقعاتها وتفسيراتها لمفاهيم مثل (الاستقلال، والاستقرار، والنجاح، والحماية). فاعتقدوا انهم امام طريقين لا ثالث لهما:
· اما التمرد على هذه التقاليد والأعراف وكسرها والتحرر منها.
· او الاستجابة لضغوطاتها والتخلي عن احتياجاتهم ورغباتهم الشخصية.
وكلا الطريقين لا يخلو من مخاطر:
· اما الشعور بالذنب والوصم الاجتماعي امام هذه الهياكل الثقافية العتيدة.
· او التخلي عن أنفسهم والاستسلام للتقاليد والأعراف وتركها ترسم طريقهم في الحياة.
مما يجعل التعبير عن الرغبات الحقيقية واكتشاف الذات امر صعب للغاية في ثقافتنا المجتمعية.
لماذا يصطدم البحث عن الذات بالتقاليد؟
· يُعد التعبير عن الرغبات الحقيقية واكتشاف الذات تحديًا في مجتمعاتنا، حيث يرتبط الفرد بسمعة العائلة وتوقعاتها. فالآباء يخشون تعييرهم بعدم السيطرة على أبنائهم، كما تكرّس ثقافة "نحن" على حساب "أنا"، مما يجعل الموافقة الجماعية شرطًا للسعادة الفردية. يضاف إلى ذلك الاعتماد المالي على العائلة، مما يحدّ من حرية الاختيار.
· وفي ظل هذه التحديات، يُنظر إلى البحث عن الذات بعين الريبة أو حتى الرفض، إذ يراه البعض تمردًا يهدد النسيج الاجتماعي أو خروجًا عن القيم الدينية التي تعزز الجماعة. في المقابل، ظهر تيار متطرف آخر يعلي شأن الفردانية المطلقة، معتبرًا أن الذات تعلو على أي التزام عائلي أو اجتماعي، ويربط النجاح فقط بالاستقلال التام. وبين هذين النقيضين، يبقى كثيرون في حالة تردد، ممزقين بين الحاجة إلى تحقيق ذواتهم والخوف من الاصطدام بالمجتمع.
ولكن:
"هل الذات عدوَّةً للجذور، او أنَ الجذور عدوَّةً للذات.. ام ان الذات وَرَقَةٌ مِنْ شَجَرَةِ التقاليد."
بالطبع، الورقة والشجرة لا يمكن لكل منهما العيش دون الأخرى. لذا:
- البحث عن الذات ليس عداءً للتقاليد.
- ولا يعني انسلاخ الذات عن الهوية الجماعية.
- بل كل ما في الامر انها:
عملية تنمية للعلاقة بين الفرد والعائلة وبين الذات والجماعة دون إلغاء أحدهما.
قد لا يروق هذا الكلام للمتطرفين من الاتجاهين، لذا فحديثي موجه للمترددين من الفئتين:
- من يخشون خوض التجربة خوفًا من الصدام.
- ومن يخشون تغيير التقاليد خوفًا على تماسكها.
أقول: يمكنكم تحقيق ذاتكم مع الحفاظ على جذوركم عبر خطوات مرنة وذكية. لا نحتاج إلى قطيعةٍ مع الماضي، بل إلى حوارٍ يدمج حكمة الأجداد باحتياجات الأبناء. مع الاخذ بنظر الاعتبار أن التقاليد الاصيلة هي تلك التي يمكنها التكييف مع كل زمان، وأن السعادة ليست بالتطرف (رفضًا أو قبولًا)، بل في توازن الفهم وعمقه.
تحليل التقاليد: الماضي والحاضر
· فمن جهة، التقاليد الاجتماعية ليست بالضرورة "قيودًا جامدة"، بل اغلبها قد تكون نتاج حكمة تراكمية عبر الأجيال، نابعة من تجارب سابقة وُجِدَت لحماية المجتمع في سياقات تاريخية واقتصادية معينة.
· لكن من جهة أخرى، لا يعني هذا أنها مُقدَّسة ولا تقبل المراجعة، بل يجب فهم أسباب نشأتها أولًا، ثم تقييم مدى ملاءمتها للواقع الحالي.
ومن امثلة ذلك:
الزواج المبكر: جذوره وتغير معناه اليوم
نشأ تقليد الزواج المبكر في سياقات تاريخية واقتصادية محددة، حيث كان يهدف إلى تحقيق الاستقرار الاجتماعي وحماية الفتيات من العنوسة في مجتمعات ذات معدلات عمر منخفضة. كما لعب دورًا اقتصاديًا مهمًا في المجتمعات الزراعية، حيث كانت الأسر تسعى لتخفيف الأعباء المالية.
لكن اليوم، تغيرت الظروف جذريًا:
- تحسّن الرعاية الصحية، مما أطال متوسط العمر.
- تطور دور المرأة وزيادة فرصها في التعليم والعمل.
- ارتفاع تكاليف المعيشة جعل الزواج المبكر عبئًا بدلًا من أن يكون ضمانًا للاستقرار.
ومع ذلك، تظل الفكرة الأساسية خلف الزواج المبكر، وهي تحقيق الاستقرار الأسري، ذات أهمية. لذا، بدلاً من رفضه كليًا أو التمسك به دون مراجعة، يمكننا إعادة تفسيره بطرق تناسب العصر، مثل دعم الشباب في بناء حياتهم باستقلالية ووعي.
الوظيفة الحكومية والعمل الحر: بين الاستقرار والتغيير
ترسخت ثقافة تفضيل الوظيفة الحكومية في مجتمعاتنا بسبب الظروف السياسية والاقتصادية السابقة، حيث كانت الدولة تمثل المصدر الأكثر أمانًا للدخل وسط الحروب والأزمات الاقتصادية. كما ارتبطت الوظيفة بمكانة اجتماعية مرموقة، مما عزز هذا التوجه عبر الأجيال.
لكن في الواقع الحالي، لم تعد الوظيفة الحكومية تضمن الاستقرار المالي كما في السابق، في حين ظهرت فرص جديدة في القطاع الخاص والاقتصاد الرقمي. ومع ذلك، يبقى مفهوم "الاستقرار" مهمًا، ويمكن تحقيقه اليوم بطرق مختلفة، مثل:
- دعم المشاريع الصغيرة بقروض ميسرة وضمانات حكومية.
- العمل الحر عبر المنصات الرقمية، مما يوفر دخلًا مرنًا ومستدامًا.
- الانضمام إلى شركات دولية تعمل عن بُعد، مما يفتح آفاقًا جديدة للاستقرار المالي.
الهدف ليس رفض الوظيفة الحكومية، بل توسيع مفهوم الاستقرار ليشمل خيارات أكثر تنوعًا ومرونة تناسب التغيرات الحالية.
اذن، في الاغلب الأحيان لا تكون التقاليد سجناً للذات بل من الممكن ان نجعلها أساسا ننطلق منه في رحلتنا نحو الوعي الذاتي، فهو ليس صراعا ولا معركة بين الحديث والقديم، بل يمكن جعله فرصة للإعادة اكتشاف الذكاء الجمعي لمجتمعاتنا، التي تميزت عبر التاريخ بقدرتها على المزج بين الاصالة والمرونة. فالفهم للتقاليد لا يعني القبول بها كما هي، بل هي عملية تفكيك أسبابها واستخلاص الحكمة الكامنة ورائها، ثم إعادة بنائها بشكل يتناسب مع تحديات الواقع لا بهدف كسرها، بل تحويلها من قوالب جامدة الى أدوات مرنة تساعدنا على النمو دون تمزيق للنسيج الاجتماعي.
خمس خطوات لتحقيق التوازن بين الذات والجذور
وبناء على كل هذا اليك خمس طرق عملية لتحقيق هذه المعادلة الصعبة، من خلال الأمثلة التي قدمناها في بداية حديثنا:
1- الحوار المني على القيم المشتركة (داليا من حلب).
· الخطوة:
البحث عن القيمة التي تجمع بين رغبتك وتوقعات العائلة، ثم تقديم قرارك كخدمة لهذه القيمة.
· التطبيق:
يمكن ان تقول داليا لامها: اريد اكمال دراستي لأكون زوجة واما مثقفة تساهم في تعليم أطفالنا.. اليس هذا ما تتمناه كل عائلة؟
· المبدأ العام:
تحويل الصراع الى تعاون عبر الربط بين احلامك وقيم العائلة العليا (التعليم، التميز).
2- التدرج في فرض القرارات عبر "النجاحات الصغيرة (هاشم من العراق).
· الخطوة:
ابدا بتنفيذ جزء من قرارك بشكل جانبي، ثم اعرض نتائج ملموسة لأقناع العائلة.
· التطبيق:
يعمل هاشم في مشروعه الحر لساعات محددة يومياً، ويظهر لأبيه أرباحه الشهرية مع الوقت.
· المبدأ العام:
النجاح العملي هو أفضل لغة لأقناع المشككين.
3- توظيف الحجج الثقافية والدينية (عائشة من الرياض).
· الخطوة:
الاستفادة من النصوص الدينية او الحكم التراثية لتبرير اختيارك من دون مواجهة مباشرة.
· التطبيق:
تذكر عائشة لوالدها حديث: اطلبوا العلم من المهد الى اللحد، وقول له: علم النفس سيساعدني ان أكون معلمة افضل واربي اجيالاً واعية.
· المبدأ العام:
الثقافة والدين ليسا عائقاً.. بل عامل مساعد لإظهار شرعية التغيير.
4- تحويل الصراع الى "مصلحة مشتركة" (جاد من صور).
· الخطوة:
اشراك العائلة في المشروع بشكل يعزز مصلحتهم، حتى لو كان بشكل رمزي.
· التطبيق:
يقوم جاد بتخصيص نسبة من أرباح مشروعه المستقل لدعم أخيه الأصغر -علاج او زواج- او يطلب من شقيقه إدارة الحسابات.
· المبدأ العام:
المشاركة تذيب اتهامات الانانية.
5- الربط بين الابتكار والهوية المحلية (احمد من الإسماعيلية).
· الخطوة:
تقديم التجديد كتطوير للتراث لا كطيعة معه.
· التطبيق:
يقول احمد لأهل قريته: الزراعة المائية هي امتداد لعبقرية اجدادنا في استغلال المياه.. سنكون روادا كما فعلوا.
· المبدأ العام:
الهوية ليست عبئاً.. بل سند للأبداع.
وفي الختام، هل يمكن أن تصبح الجذور داعمةً للنمو بدلًا من أن تكون قيدًا؟
ربما الإجابة ليست في الصراع، بل في إعادة التفكير بطريقة جديدة.. ان البحث عن الذات ليس رفاهية، بل ضرورة لبناء أجيال قادرة على مواجهة تعقيدات العصر، لكن النجاح في هذه الرحلة يتطلب:
- الاحترام. بعدم انكار الحكمة التي تقف وراء التقاليد.
- الإصرار. تقديم ادلة عملية على جدوى الخيارات الجديدة.
- المرونة. تحويل التصادم الى حوار عبر لغة ثقافية مستمدة من نفس الموروث.
بناء الجسور بين الماضي والحاضر هو اختبار لقدراتنا على إعادة تعريف "نحن" لتعطي مساحة لـ "انا" والضفر بأنفسنا في وسط هذا التعقيد مثلما فعل من قبلنا من الإباء والاجداد الذي وعوا أنفسهم وعصرهم واوصلوا لنا هذا التراث الغني.