هل انت سبب ركودك؟

التخريب الذاتي الخفي: كيف تقف بوجه نفسك وتبدأ التغيير مستعيناً بالله؟ تعرف على السبب الحقيقي وراء تراجعك المستمر، وجرب هذه الحلول وانظر كيف سوف تكسر الحلقة المفرغة التي تدور فيها.

المقالات

مصطفى حمد

4/29/20251 min read

"أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك." – الإمام علي عليه السلام

لا شيء اسوء من الدوران في حلقة حول نفسك لأسابيع وشهور وسنوات دون أي تقدم يذكر.

· تحاول ان تغير من مستوى دخلك.. او الوصول الى منصب معين في مسيرتك المهنية.

· تعاني مع دهون بطنك العنيدة، التي وعدت بالتخلص منها منذ سنوات.

· يتعلق الامر بممارسة هواياتك او بناء علاقاتك التي تتحدث عنها من زمن لا يعلمه الا الله.

صدقني، ما يؤلم في كل هذا ليس نفس الفشل، بل ما يؤلمك أكثر هو حالة الركود والجمود امام الزمن. فتشعر كأنك تقف ساكن بينما يتحرك العالم من حولك بسرعة البرق.

والادهى والامر.. ليس أنك لا تحاول..

لقد وضعت خطط ملموسة وعملية، وتبنيت استراتيجيات مرنة قابلة للتعديل عندما تسير الأمور على ما لا يرام. تلتهم كل كتاب مساعدة ذاتية يقع بين يديك، حتى أصبحت متخم بالمعلومات التخصصية في علم النفس من اكاديمية يوتيوب.

رغم كل ذلك، لا تزال واقفا في نفس مكانك.

قد تسمع البعض يقول لك: "امر طبيعي ان تمر ببعض فترات الركود غير الموفقة"، ولكن مع مرور الوقت وثبات حالة الركود، تبدأ بالتفكير بانك ضحية مؤمرة خفية، فتفقد ايمانك بكل الادوات والخطط والنصائح، وتصاب بخيبة امل كبيرة من نفسك في كل مرة تحاول فيها احراز تقدم.

في نهاية الامر، وبعد مرور وقت كافي واجتماع ادلة ملموسة من تجاربك الواقعية، ستكتشف ان المشكلة تكمن فيك انت!

قد لا تعرف كيف بالضبط، لكن ستدرك أنك في مرحلة ما كنت تخرب نفسك.

انت تحارب النار بالنار

رغم علمك بانك تمارس التخريب الذاتي الا أنك لا تعرف لماذا وكيف، لكون كل ذلك يحدث على مستوى اللاوعي، وهو ما يجعل من اتباع النهج التقليدي في تحسين الذات المتمثل في العمل بجهد أكبر لا يجدي نفعاً، سوى استنزاف طاقتك أسرع من استنزاف بطارية سيارتك عند نسيان المصابيح الامامية مضاءة.

عملك الجاد لا يعالج المشكلة الأساسية، فانت كمن يضغط على دواسة وقود لسيارة غمر محركها بالماء محاولاً تشغيلها، هذا لن يساعد في تشغيلها طالما هناك مشكلة أساسية أعمق، بل قد يزيد الأمور سوءاً.

· سيعرف قصدي كل من اكتسب وزناً رغم اتباعه حمية غذائية وتدرب بقوة.

· سيعرف قصدي كل من وجد نفسه راكدا او يتراجع بطريقة ما في عمله او مسيرته المهنية، رغم تكريسه الكثير من ساعات العمل المضني.

فكل هذه الحلول السطحية لا تجدي نفعا عندما تكون المشكلة أساسية وأعمق.

في حالة التخريب الذاتي، المشكلة الأساسية هي انت -سواء علمت بذلك ام لا- وطريقة تفكيرك وادراكك وفهمك للحياة خاطئة في بعض جوانبها. لذا، كل مرة تحاول فيها "بذل جهد أكبر" فسوف تزيد من سوء الأمور. لكون جهودك المبذولة لحل مشاكلك تنبع من نفس عقلك المعيب الذي اوجدها.

"لا يمكننا حل مشاكلنا بنفس طريقة التفكير التي استخدمناها عندما أوجدناها." - ألبرت أينشتاين.

قد يخطر على ذهنك ان العمل بذكاء بدلا من العمل بجد هو الحل الأمثل لهذا الوضع، وهي نصيحة تتردد كثيرا من مدربي الحياة والتحسين الذاتي على الانترنيت، ولكن الحقيقة التي علينا موجهتها، اننا لو كنا نستطيع العمل بذكاء لما انتهى بنا الامر الى هذا الوضع، لكون المشكلة الأساسية هنا ان من يحاول التحسين هو من يحتاج الى التحسين.

يصف الفيلسوف البريطاني " آلان واتس" هذه المحنة الإنسانية بـ (المأزق المزدوج).

حكمة من الدين

هذا المأزق المزدوج هو سبب تركيز الثقافة الإسلامية على الاستعانة بالله عز وجل، وطلب المساعدة منه بالصلاة والدعاء كوسيلة للتغيير، لمساعدتنا في كشف التخريب الذاتي اللاواعي بإحضاره الى الوعي ليسهل التعامل معه.

قد تبدو هذه الممارسات في النظرة السطحية القائمة على الملاحظة المادية غير المدروسة سلبية للغاية، وأنها تدعو الى الهروب من الواقع والعيش بدون تفكير، او الاتكالية بترك العمل بالأسباب والاعتماد بالكامل على القوة الإلهية دون بذل الجهد.

الا ان ما يخبرنا به الواقع عن هذه الممارسات هو انها أفضل طريقة لتغيير حياتك، لكونها تجعلنا نعالج المشكلة بالاستناد الى "حكمة اعلى" تفهم الانسان أكثر مما يفهم نفسه، وتوجهه الى ما يصلحه، ولا تلغي العمل بالأسباب، بل تمنحها بعداً روحياً يخفف من الضغط والتخوف من الفشل او التعلق بالنتائج.

بل العلم يؤيد ذلك ايضاً، ففي علم النفس وتطوير الذات هناك مفهوم مهم اسمه الكشف الذاتي (Self-Disclosure).

هذا المفهوم يقوم على فكرة أن الإنسان حين يكشف مشاعره وأفكاره العميقة ومخاوفه أمام شخص آخر يثق به، فإنه بذلك ينتقل من حالة الغموض الداخلي إلى الوضوح، مما يعزز وعيه بنفسه ويمكنه من معالجة مواطن ضعفه أو اضطرابه.

من هنا، في معالجة التخريب الذاتي الخفي، يُنصح بأن نكشف ذواتنا أمام شخص موثوق يعرفنا جيدًا — صديق حكيم، أو مدرب أمين — كي يساعدنا في رؤية ما لا نراه بأنفسنا.

ولكن هنا تظهر إشكالية حقيقية: مهما كان الشخص الآخر حكيمًا أو عارفًا بنا، تبقى معرفته محدودة نسبيًا بظروفنا، خفايا نوايانا، وتجاربنا الداخلية.

ولهذا، من الناحية العقلية والروحية، يكون الله سبحانه وتعالى هو "الجهة الخارجية" الأكمل والأعلم والأوثق التي يمكن أن نكشف ذواتنا أمامها بثقة مطلقة:

- الله مطّلع على سرائرنا وظواهرنا:

﴿يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾ (طه: 7).

- الله لا يحكم علينا من ظاهر أفعالنا فقط، بل يعلم نوايانا ودوافعنا العميقة:

﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ (ق: 16).

- ثقته مطلقة وكاملة لا تخون ولا تخطئ:

﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ﴾ (الفرقان: 58).

بالتالي:

الاستعانة بالله عبر كشف ذواتنا له، بالصدق في الدعاء، والمناجاة، والاستفادة من إرشاداته عبر القرآن والحديث، ليس مجرد بديل عن الكشف الذاتي أمام إنسان آخر، بل هو أعلى مراحل الكشف الذاتي وأكملها وأضمنها.

من هنا نفهم السر العميق الذي ركزت عليه الثقافة الإسلامية:
أن الاستعانة بالله ليست هروبًا ولا اتكالية، بل هي كشف صادق للذات أمام المطلق الذي يملك القدرة وحده على شفائنا وهدايتنا إلى أنفسنا الحقيقية.

وهذه الاستعانة بالله سبحانه وتعالى، كما سنرى، ليست فقط بالجانب الروحي (دعاء، تضرع، صلاة)، بل تمتد أيضًا إلى آليات عملية بينها لنا في القرآن الكريم وسنة نبيه وأهل بيته عليهم السلام، لتكون أدوات فعالة لكشف التخريب الذاتي الخفي من أعماق اللاوعي إلى نور الوعي.

فلنبدأ إذن بتوضيح هذين الجانبين الأساسيين للاستعانة: الاستعانة الروحية العامة، والاستعانة العملية الخاصة.

الاستعانة بالله – الجانب الروحي العام:

أول أشكال الاستعانة بالله عز وجل، هو اللجوء الروحي الخالص: بالدعاء، والخشوع، والانكسار بين يديه، وطلب الهداية لكشف ظلمات النفس وما تخبئه من عوائق خفية.

هذا اللجوء ليس مجرد ممارسة شكلية أو طقس عاطفي عابر؛ بل هو عمل واعٍ متعمد، غايته تهيئة النفس لقبول الحقيقة عن نفسها مهما كانت مؤلمة.

عندما تضعف قواك أمام صراعك مع نفسك، وعندما تجد أن جهودك العقلية غير كافية لاختراق حجب اللاوعي، تكون لحظة الدعاء هي إعلان صريح بفشلك وحدك وطلبك للعون من الحكمة العليا.

في لحظات الخشوع الصادق، يتلاشى غرور النفس الدفاعي الذي يحجب عيوبك عن بصيرتك، فتبدأ الحقائق تظهر واحدة تلو الأخرى، كأنها كانت تنتظر منك فقط أن تتخلى عن وهم السيطرة المطلقة، وتسلم زمام أمرك لمن خلقك وأعلم بك منك.

وقد دعا القرآن الكريم بوضوح إلى هذا المسار بقوله:

﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ (غافر: 60).

فالاستجابة هنا لا تقتصر على تلبية الرغبات الخارجية، بل تشمل أيضا استجابات الهداية وكشف العيوب، وهي من أعظم ما يُستجاب به للعبد إذا أخلص اللجوء وصدق الطلب.

الاستعانة بالله – الجانب العملي الخاص:

لم يكتف البارئ عز وجل بأن يطلب منا التوجه إليه بالدعاء فقط، بل أنزل إلينا آيات محكمات، وأرسل نبيًا وأوصياء معصومين، يحملون بين أيديهم خرائط دقيقة تكشف لنا آليات الخروج من دوائر التخريب الذاتي الخفي.

هذه النصوص المقدسة (القرآن والحديث الشريف) لا تخاطبنا خطابًا عاطفيًا فقط، بل تقدم لنا أدوات عملية لفهم أنفسنا وكشف أنماط الفشل الداخلي.

على سبيل المثال:

- حين تصيبك الحيرة والعجز أمام المصاعب، يأمرك القرآن بتذكر:

﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ (البقرة: ٢٨٦)،
لتزيل عنك الأوهام المثقلة التي تدفعك إلى الإحباط والتوقف.

- وعندما تخشى الفشل، يرشدك إلى قانون إلهي عظيم:

﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾ (الطلاق: ٢).

- وإذا واجهت مواقف قاسية لا ترى فيها أملًا، يطمئنك الوحي:

﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ (الانشراح: 5).

وهكذا تتعدد الآيات والأحاديث، لتكون بمثابة مرشد عملي يساعدك على كشف أعماق نفسك دون أن تضيع في متاهات التحليل الذاتي العقيم.

بل إن النبي صلى الله عليه وآله، وأئمة أهل بيته الطاهرين عليهم السلام، تركوا لنا وصايا عملية صريحة حول هذا الكشف الداخلي، مثل قوله صلى الله عليه وآله:

"رحم الله امرءاً أهدى إلي عيوبي."

أو قول الإمام علي عليه السلام:

"من نظر في عيب نفسه اشتغل عن عيب غيره."

وليس ببعيد عن كل ذلك، إن الإمام زين العابدين عليه السلام في أدعيته — خصوصًا دعاء مكارم الأخلاق — علمنا كيف نصلي لله كشفًا لعيوبنا الداخلية الخفية، طالبين الهداية والشفاء من أمراض النفس قبل أمراض الجسد.

هذه النصوص مجتمعة، تقدم لنا أدوات فعالة، بل منظومة متكاملة لاستخراج التخريب الذاتي من أغوار اللاوعي، وتحويله إلى وعي مبصر قابل للتعامل والمعالجة.

في نهاية هذا الطريق المتعرج، ندرك أن معركتنا الكبرى لم تكن يومًا مع العالم الخارجي، ولا مع الظروف، ولا حتى مع قلة الإمكانيات.
كانت المعركة الحقيقية دائمًا مع ذلك العدو الخفي:
التخريب الذاتي اللاواعي.

لقد جربنا الحلول التقليدية: خطط، تدريبات، تحفيزات...
لكنها فشلت لأننا لم نواجه جذور المشكلة المختبئة خلف ستار اللاوعي.

اليوم، بات واضحًا أمامنا أن الخطوة الأولى نحو التحرر الحقيقي تبدأ بإخراج هذا التخريب إلى دائرة الوعي.
أن نراه، نسميه، نواجه بلا مواربة.

ولأن النفس البشرية بطبعها تميل إلى الخداع والتغافل، لم يكن كافيًا أن نعتمد على وعينا المحدود وحده.
كنا بحاجة إلى عونٍ خارجي، عونٍ حقيقي.
فكان المصدر الأعظم: الاستعانة بالله عز وجل، الذي دلّنا عبر آياته ورسله وأوصيائه على أدوات عملية وطرق عملية لملاحظة خبايا أنفسنا وكشف زلاتنا الخفية.

كل آية، كل حديث شريف، كل دعاء صادق، هو خريطة نورانية تقودنا لاكتشاف "ألغام التخريب" قبل أن تنفجر في طريقنا.

إن كل من يسلك هذا الطريق بصدق سيجد نفسه أخيرًا يتحرر،
ليس لأنه بذل جهدًا أكبر فقط، بل لأنه أصبح يرى بوضوح أين ينبغي أن يبذل جهده، وأين كان يستنزفه عبثًا دون جدوى.

وهكذا يتحول السير في رحلة التغيير إلى صعود حقيقي، متدرج، لكنه ثابت وعميق.

فالوعي نور، والاستعانة بالله مدد، ومن جمع بين النور والمدد... لم يظل طريقه أبدًا.

ابدأ من الآن. واجه نفسك بصدق، واطلب العون من الذي يعلمك أكثر مما تعلم أنت نفسك.