كيف نعيد شحذ وعينا
لماذا نتجاهل المعجزات اليومية؟
المقالات
مصطفى حمد
6/22/20251 min read


يقول الباري عز وجل: "فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ" الحديد (الآية 16).
عندما أفكر في هذه الرؤية القرآنية ينكشف امامي السر في توقفنا عن رؤية ما هو امامنا مباشرة، وكيف تفقد كل الأشياء بريقها في اعيننا، وتصبح الأمور الاستثنائية في حياتنا عبارة عن مجرد أشياء عادية ان لم نقل مملة.
مرور الزمن الطويل (طَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ) يؤدي إلى تعرض متكرر ومستمر لنفس المنبهات (أفكار، مشاهد، تجارب، بل وحتى النِعم). الدماغ، من خلال آلية التكيف الحسي في المهاد البصري (Thalamus)، يرشح هذه المنبهات المألوفة تلقائيًا (يرشّح 99% من المدخلات)، ويقلل استجابة الخلايا العصبية لها. التعود السلوكي يجعلنا نتوقف عن الرد باهتمام أو تفاعل عاطفي (فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ).
وبالنتيجة ينخفض بشكل حاد نشاط مناطق الدماغ المرتبطة بالمكافأة (مثل الجسم المخطط) والانتباه (القشرة الجبهية الأمامية) والتفكير التأملي (شبكة الوضع الافتراضي DMN) عند التعرض للمألوف، كما تُظهر دراسات تصوير الدماغ (مثال: انخفاض 60% في نشاط الدماغ تجاه الزوج/ة بعد عامين).
هذه البرمجة الفطرية الرائعة لأدمغتنا التي تتجاهل الثبات والاشياء التي تبقى على حالها، وتجعلها تعمل في الخلفية تاركتاً انتباهنا حراً لرصد أي تغيير ولو طفيف في صوت الحبيب الذي ينذر بقرب وقوع المشاكل.
او مثلما كانت المصابيح الكهربائية الأولى تُثير دهشة الناس حتى اضطر توماس إديسون إلى توظيف حراس أمن لإبعاد الحشود عن عروضه الأولى. حيث كان الناس يقطعون أميالاً لمجرد الوقوف في غرفة والتحديق في مصباح متوهج. أما الآن، فلا نلاحظ الأضواء إلا عند احتراقها.
ولهذا تقول الحكمة العربية الشهيرة: "مَنْ أَلِفَ شَيْئًا أَعْمَاهُ" -التي تنسب في بعض كتب الادب الى الامام علي بن ابي طالب عليه السلام-، او قولهم: " الاعتياد يُذهِب الإعجاب".
والتي هي ذاتها ما يعرف في العلوم الحديثة "العمى الإدراكي" (Perceptual Blindness).
الاعتياد يؤدي الى انخفاض كبير في افراز الدوبامين كما تتحدث دراسة جامعة هارفارد 2018 عن كيف ان التكرار يؤدي الى انخفاض إفراز هذا الناقل العصبي المرتبط بالمكافئة واللذة والاهتمام والدهشة، والذي بدونه تفقد الأشياء بريقها (يُذْهِبُ الإِعْجَابَ)، والالفة تجعل الدماغ يتوقع المألوف ويتجاهل التفاصيل الدقيقة، مما يؤدي الى "العمى" عن رؤية الجمال او القيمة او حتى المشاكل الخفية في الشيء المألوف (أَعْمَاهُ)، وهي ظاهرة مدروسة في علم نفس الإدراكي.
- ففي المرة الأولى التي ترى فيها المحيط، يتوقف قلبك.
- في المرة المئة، تتحقق من رسائل هاتفك بينما ترتطم أعظم قوة في العالم بقدميك.
- في المرة الـ 10.000، تنزعج من الرمال في حذائك.
هل سئمت المعجزة من إثبات نفسها لك وتوقفت عن المحاولة، أو ربما توقفت انت عن النظر؟
لطالما فعلنا هذا. نتثاءب أمام العجائب.
هذه الآلية الفطرية -تكيف الدماغ مع المألوف- التي تكشفها لنا الرؤية القرآنية، لا تقتصر عواقبها على إطفاء بريق العالم الخارجي. بل هي تشن حرباً صامته على عالمنا ووعينا الذاتي الداخلي ايضاً.
فتسطيح وعينا بذواتنا لا يظهر فجأة من الفراغ، بل هو انهيار بطيء للطبقات التي تشكل تجربتنا الإنسانية بأكملها. فتحولنا بطريقة خفية من وجود متعدد الابعاد -غني بالإحساس والشعور والمعنى- الى حيز ضحل تختزل فيه الحياة الى مجرد وظائف الية.
هذه الرحلة نحو تسطيح الوعي تبدأ من أدنى طبقات الوعي ارتباطاً بالوجود المادي فتتجاهل نبض الجسد واشاراته، ثم ترتقي الى الطبقة الوسطى التي تنسج فيها المشاعر والمعاني الجمالية، فتتبلد انفعالاتنا وتتحول الى مجرد ضجيج، لتصل اخيراً الى القمة التي تعطي المعنى لوعينا الوجودي، فتخمد صوت تفكرنا وارادتنا الواعية.
هذه المستويات الثلاثة:
- فقدان التجسيد (Disembodiment). في تلك اللحظة التي تُفاجأ فيها بسرعة نبضات قلبك بعد الجري، فتُدرك أنك لم تكن تسمعها منذ أسابيع!
إنها مفارقة مؤلمة:
أعظم معجزة تحملها - جسدك - تتحول إلى "خادم صامت".
· تنفسك يتحول إلى ضجيج ميكانيكي.
· آلام عضلاتك تصير رسائلَ مهملة.
· إشارات التعب تُقرأ كعوائق لا نداءات استغاثة.
كأنك تقود سيارة فاخرة بلا عداد وقود... حتى تنفدَ منك الحياةُ وأنت لا تدري.
- موت المشاعر (Emotional Atrophy). كما لو أنك جلستَ مع من تحب، فاكتشفتَ أنك تسمع كلامه دون أن تسمعَ نبضَ ما وراء الكلمات... كشجرةٍ رأيتها ألف مرة فلم تعد ترى أوراقَها.
هذه هي خيانة الألفة:
· ضحكة طفلك تصبح "صوتًا عاديًا".
· لوحةٌ أثارتك يومًا تتحول إلى حائط.
· لحن كان يدخل روحك كالنسيم... يصبح خلفيةً لسيارة الغاز السائل.
العجيب أن الألم وحده يقاوم التبلد! كأنما التعودُ يسرق البهجةَ ويترك الجروحَ.
- الاغتراب الوجودي - (Existential Automation). يومك يمرُّ كسحب الظل: تستيقظ، تشرب قهوتك، تعمل، تنام... ثم تُفاجأ بالسؤال: "أين عشتُ اليوم؟".
تتسبب ببلوغ التسطحُ ذروته:
· قراراتُك تُتخذ كضربات أرقام على الآلة الحاسبة.
· أحلامُك تتحول إلى "بنود" في مفكرة.
· حتى لحظات الصمت تصير فُرصًا لفحص الرسائل!
الأسوأ: أنك تتوقف عن طرح السؤال الأقدس: "لماذا؟".
وتصبح كأنك ساعي بريدٍ يوزع رسائلَ لا يقرأها.
جميع هذه الظواهر ليست منعزلة، بل هي حلقات متصاعدة في سلسلة التفكك الداخلي. مع كل حلقة، يصبح الوعي أشبه بنحتٍ يُزال منه بُعدٌ تلو الآخر: أولاً يُفقَد العمق الملموس (الجسد)، ثم العمق النابض (العاطفة)، وأخيرًا العمق المُفسِّر (المعنى). ما يتبقى في النهاية ليس موتًا للوعي، بل تحنيطًا له: كيانٌ يعمل بلا حضور، ويُنجز بلا غاية، ويُحسّ بلا رنَّةٍ داخلية.
هذا المسار الصامت هو تشريحٌ لِـ "كيف تُنتج الطبيعة البشرية نقصانها بنفسها". التكيّف والتعود، تلك الآليات العبقرية التي تُحافظ على طاقتنا، تصبح – عندما تُطلق دون رقيب – أدوات تقطيع لجسد الوعي الحي.
وهنا، يصبح السؤال القرأني الذي ورد في صدر الاية التي افتتحنا بها الحديث "أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ" كصرخة في وجه الآلية العصبية الفاقدة للحياة، لقد "آنَ الأوان!" لإجراء الجراحة المطلوبة " أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ":
- تخشع" = تتحسَّسُ تفاصيلَ الحياةِ الغائبةَ (كسرُ التكيّف).
- تخشع" = تعيدُ اكتشافَ طبقاتِ المعنىِ (الملاحظةُ العميقة).
- تخشع" = تُوقظُ سؤالَ "اللماذا؟" في الروحِ (تشريحُ المعنى).
والاجابة ليست في خطب تحفيزية، بل في "أدوات عملية تعيد توصيل جهازنا العصبي بالعالم.
وبناء على ذلك قمت بتصميم بروتوكول "التعميق الثلاثي" في ورقة عمل تدريبية جاهزة لتشكل لنا خارطة الطريق.
- تمرين يومي مدته 10 دقائق.
- يعيد تنشيط 3 طبقات من الوعي (جسد/مشاعر/معنى).
- يحول الروتين الى مغامرة واكتشاف.
ورقة العمل هذه ليست نصائح.. بل مختبر شخصي يعيد لك:
- حس الطفل وهو يلمس المطر لأول مرة.
- عمق الحكيم وهو يفكك تفاصيل الحياة.
تم تصميم الورقة لكسر طلاسم الالفة:
- جدول اسبوعي لإعادة ضبط الحواس.
- 7 أسئلة تأملية تثقب جدران التكيف.
- مساحة لتشريح ابسط عاداتك وروتينك (شرب استكان الشاي، صوت ضحكت طفلك، طريقك اليومي الى العمل).
لمن صممت هذه الورقة؟
- لكل من يشعر ان حياته تسرق منه بين الروتين.
- لمن يريد ان يسمع دبيب النملة في قلبه قبل غرفته.
كيف تستخدم ورقة العمل؟
1- اطبعها وضعها امامك في مكان تراه باستمرار.
2- ابدا بتحدي اليوم 70 ثانية (اول تمرين).
3- شارك اجاباتك مع صديق.. واكتشفا انكما تعيدان اختراع الواقع.