كلنا يعرف ان الهاتف "يعمل في كلا الاتجاهين" او "لو شاء لفعل" والتي تعني ان كلا طرفي العلاقة مسؤول على الحفظ على التواصل.. فهو ليس مسؤولية أحد الطرفين المحافظة على استمرارية العلاقة.. فالهاتف القادر على المكالمات الصادرة يستطيع بسهولة استقبال المكالمات الواردة أيضا..
المغالطة في مثل هذا التفكير رغم انه يحمل كلا الطرفين مسؤولية الحفاظ على التواصل.. الا ان الشعور بالمساواة الذي يتولد عنه قد يؤدي الى طريق مغلق.. فكل طرف هنا إذا لم يتواصل أحدهما سوف يعتقد ان الطرف الاخر اقل تواصلا منه.. أي يفترض ان ذلك الطرف يبذل جهد اقل.. ولكن الواقع أكثر تعقيدا من هذا الافتراض الساذج..
ما العيب في هذا المنظور؟
بالنسبة لي كانت هناك أوقات في حياتي كنت اعلم ان أصدقائي يمرون بظروف صعبة.. لكنني لم أستطع التواصل معهم.. واقعا لم يكن الامر يتعلق بعدم رغبتي في التواصل معهم في مثل تلك الأوقات.. كل ما في الامر انني في حينها كنت أحاول انقاذ نفسي من الغرق.. فلم أكن امتلك الوقت او الطاقة او الموارد العاطفية للتعامل مع مشاكل أي شخص اخر مع مشاكلي.. والسؤال هنا: هل يجعلني هذا صديقاً سيئاً ام انسان يعاني؟
يمكن ان أتوقع اجابتك: ان الأصدقاء يجب عليهم ان يقفوا الى جنب بعضهم البعض مهما كان الامر..
في الحقيقة، ان توقع تواجد الأصدقاء دائما الى جانبنا لا يتوافق مع نضج العلاقات.. فمن النضج التوقع احياناً ان لا يستطيع اصدقاؤنا ان يكونوا الى جانبنا.. بل لا ينبغي لنا ان نتوقع ان يكونوا متاحين مهما كانت ظروفهم واحوالهم.. ولابد لكلا الطرفين إعطاء الطرف الاخر مجال للحركة في أوقات الازمات.. وان يكون لدينا نظام دعم إضافي للاستعانة بشخص اخر عندما يعجر الطرف الأول عن تحمل المزيد مما يتحمله بالفعل..
انا في العادة أقدم نفسي حتى في أوقات ارهاقي.. كنت اعطي حتى لا يتبقى لي شيء لنفسي.. لأنني أحب شعوري عندما يحتاجني الناس.. ولم أرد ان ينظر الي كصديق سيء.. ولكن عندما اصابتني نكبات الحياة أدركت مدى صعوبة الاستمرار في مساعدة الاخرين بينما لا أستطيع مساعدة نفسي..
استغرق الامر مني الكثير من التجارب والمحاولات، ولكنني تعلمت من خلالها ما كنت أستطيع تحمله وما لا أستطيع.. فعندما شعرت بالإرهاق الشديد ومررت بتقلبات مزاجية غير مفهومة وقلق واكتئاب متزايدين.. كان على ان ادعم الشخص الوحيد الذي هو بأمس الحاجة الي: نفسي..
اضطررت للتخلي عن كل شيء اخر لأنقذ نفسي.. فهذه الطريقة الوحيدة التي أستطيع من خلالها الاستمرار في عملي ورعاية اطفالي.. لقد كانت حياتي شبه المنهارة.. ولم أستطع تأجيل دعم عالمي الخاص لدعم شخص اخر..
نعم، فكرة اننا سنكون دائماً في خدمة الاخرين جميلة ومغرية.. لكنها غير واقعية.. لأننا أحيانا نكون قد بذلنا قصارى جهدنا.. ولا ينبغي لاحد ان يتوقع منا أكثر من ذلك..
أتوقع منك ان تفكر الان: ماذا عن مبدأ تساوي الجهد في الصداقة!
أنا لا انظر الى تساوي الجهد في الصداقة بالكم او العدد.. فهذا يمكن ان يغلف العلاقة بغلاف منطقي صارم ينزع عنها طبيعتها الاجتماعية والإنسانية.. فاذا لم اتلق ردا من أحد أصدقائي لا افترض انه غاضب مني او انه صديق سيء.. فلست انتظر منه ان يتواصل معي لان "دوره قد حان".. وبغض النظر عن كمية او عدد مرات مبادرتي للتواصل معه.. نعم، انا اؤمن بفاعلية العلاقة عندما تزود بالطاقة المتبادلة.. الا انني اتفهم ايضاً ان العلاقة في بعض الأحيان قد تكون غير متساوية عندما يتعامل احد الطرفين او كلاهما مع احداث الحياة الثقيلة..
وبالطبع من المفيد أيضا ان نتذكر ان الصديق الذي يحتاج الى المزيد من الاطمئنان عليه أحيانا هو الطرف الذي اعتاد غالبا الاطمئنان على الاخرين.. لذا عندما يختفي الناس من حياتي لا اعاقبهم بصمتي، بل ابادر للاطمئنان عليهم والتأكد انهم بخير واعلامهم انني أفكر فيهم.. بدلاً من التنصل عن مسؤولية التواصل معهم علينا ان ننمي قدر من المسؤولية الشخصية..
لا تحكم على اصدقائك الذين لم يتواصلوا معك انهم سيئون.
الحياة تدور.. وربما أصبح هناك سبب وجيه وراء خروج شخص ما من حياتنا.. فالطاقة السلبية والتصرفات السامة يمكن ان تدفع البعض بعيدا عنا.. ربما تكون بعض صداقاتنا غير متكافئة فيكون مصيرها الانهيار.. وافتراضنا ان الطرف الاخر لا يتواصل معنا لأنه صديق سيء معارض بحقيقة اننا نحن قد نكون من خذلناه.. واقعا، بعض الأصدقاء قد ينفصلون عنا بسبب عدم تواصلنا معهم مؤخراً.. ولكن يحتمل أيضا ان هناك سبب اخر غير هذا السبب الظاهري.. فليست كل الصداقات تدوم.. مما يعني ان الطرف الاخر ليس بالضرورة سيء او انه لم يكن صديق جيد في فترة ما..
علينا ان ندرك اننا لسنا محور الكون، وان نتقبل ان للأخرين مشاكلهم الخاصة.. ان تكون صديقا جيدا لا يعني ان تبادر الى ارسال رسائل نصية او ان ترد على الرسائل بالمثل -واحدة بواحدة- بل ان تكون صديق جيد يعني ان تُشعر اصدقائك بالمودة والثقة، وأنك تستمع بصحبتهم.. فكرة لو أراد التواصل لتواصل تتجاهل بشكل كامل واقع الحياة وتعقيداتها..
3 خطوات لتكون صديقاً أفضل.
بدلا من الانشغال بتقييم مدى دعم اصدقائنا لنا.. من الأفضل لنا ان نقيم سُبُل كيف نكون أصدقاء أفضل لمن حولنا.. بصراحة -وهذه موجهة لي شخصياً- إذا كنا نعاني بشكل مستمر فلا يبرر لنا ذلك عدم التواصل وعدم بذل الجهد.. قد نحتاج الى اتخاذ خطوات للحفاظ على صداقاتنا حتى مع ضيق الوقت والانشغال العاطفي بسبب ظروف خارجية.. لذا يمكننا على الأقل اتخاذ بعض الخطوات العملية والتي من أهمها:
1- خصص وقت للصداقة.
الصداقة تتطلب ان نخصص لها وقتاً. ليس بالضرورة ان يكون طويلاً.. أحيانا تكفي رسالة قصيرة لإعلامهم اننا لا نتجاهلهم ولم ننساهم.. فتخصيص وقت لأصدقائنا يُبقي الروابط معهم حية، ويساعدنا في الحصول على دعمهم عندما نمر بمحنه ونحتاج إليهم..
قد نميل في أوقات الشدة الى عزل أنفسنا.. ولكن الأبحاث تظهر ان هذا لا يضر بصحتنا النفسية فحسب، بل قد يؤثر سلباً على صحتنا الجسدية ايضاً، ويزيد من خطر الإصابة بأمراض القلب والسكتات الدماغية.. وعلى الرغم من ان هذا قد يبدو غير منطقي، الا انني من خلال تجربتي الشخصية اكتشفت في أيام محنتي النفسية ان العزلة فاقمت الكثير من اعراض امراضي الجسدية.. وان التواصل الاجتماعي خفف بشكل كبير من انزعاجي..
لذا فكلما خصصنا وقتاً للصداقة خلال أيامنا الصعبة ستكون تلك الأيام أفضل.. فقد وجدت ان حالتي النفسية تتحسن أكثر عندما اقضي بعض الوقت مع الاخرين، حتى وان كانت مشاعري الغريزية تدفعني الى العزلة..
2- كن صادقا بشأن الصراعات.
قد نميل الى إخفاء الصراعات التي نمر بها -شخصيا أكره الحديث على وجه التحديد عن التحديات المالية- ومع ذلك، من المهم ان نكون قادرين على التواصل مع من يدعمنا بصدق.. فقد يساعدنا الانفتاح ومشاركة مشاعرنا المثقلة، فبدلا من رفض الخروج لتناول الغداء مع صديق قد يكون من الأفضل ان التصريح بانك تفضل تناول الطعام في المنزل لتوفير المال.. هذا النوع من الانفتاح قد يكسبك نوع من التعاطف ويقوي العلاقات ويجنبك سوء الفهم..
والا، اذا لم نكن نشعر بالراحة في البوح لصديقنا بما نعاني منه، فقد نحتاج الى مراجعة سبب اعتبارنا له صديقاً.. نعم، لابد لنا من التفكير أولا نوع الصداقة التي تربطنا بالطرف الاخر.. هل هي صداقة عابرة، بحيث قد يناسب ان يعرف هذا الشخص معلومات عنا كما هو الحال بدائرة أصدقائنا المقربين.. فبعض أنواع الصداقات لا تتطلب نفس القدر من الوقت او الجهد الذي يتلقاه الأصدقاء في أنواع أخرى.. ولكن يجب ان يكون جميع أصدقاء الدائرة المقربة اشخاصاً آمنين نستطيع فتح قلوبنا لهم ونخبرهم بما يجري في حياتنا..
3- اسمح بالمساحة في العلاقة.
في بعض الأحيان، توقعاتنا من الأصدقاء تكون غير واقعية.. فتوقع وجود صديق على أهبة الاستعداد لإدارة كل مشاكلنا ليس امرا صحياً، بل ولا يمكن اعتباره حقاً او استحقاقاً لنا عليه.. فليس من المفترض ان يكون لدينا صديق او اثنان بمثابة نظام دعم كامل وشامل.. هذا ضغط كبير، لا يتيح لهؤلاء الأصدقاء مساحة كافية لعيش حياتهم الخاصة المزدحمة والمليئة بالتحديات..
عندما تتوفر مساحة صحية في الصداقة، لا نفترض ان صديقنا يتجاهلنا عندما يغيب لفترة.. في الواقع، غالبا ما نفترض انه مشغول ولديه الكثير من الأمور.. عندما ندرك ذلك، يمكننا تخصيص وقت للتواصل معه واخباره بوجودنا عندما يكون لديه وقت للتحدث او قضاء الوقت معاً.. بكل بساطة وبهذه السهولة..
وأخيرا.. قد يكون الهاتف حلاً مناسبا في الكثير من الحالات لكلا الطرفين.. لكن مبدأ "العين بالعين" قد لا يكون الحل الأمثل لعلاقات الصداقة.. قد يختفي الأصدقاء الحقيقيون لفترة قصيرة ليُديروا امورهم الخاصة، بل قد يختفون لسنوات -منشغلين بحياتهم الشخصية، ونقد التواصل معهم نتيجة لذلك.. ولكن مع ذلك لا يعني هذا ان الصداقة ليست حقيقية او لا تستحق منا بذل الجهد..
كنت اظن ان الصداقات مسألة بسيطة، ولكن واقع الحياة يثبت عكس ذلك.. ما رأيك انت؟
نكبر.. وتمر بنا بعض الأيام التي يصعب علينا فيها التعامل مع مشاكلنا الخاصة.. فضلا عن التعامل مع مشاكل الاخرين ايضاً.. تتقلب بنا الحياة وفقاً لما يحدث معنا.. واحياناً يكون أفضل ما يمكننا فعله هو الاعتناء بأنفسنا.. نأمل ان يتفهم أصدقائنا سبب أهمية ذلك..