لين القلب أعظم اشكال الشجاعة
بين إرث الطفولة وتحرير المشاعر، إعادة تعريف القوة في ضوء الوعي العاطفي
مصطفى حمد
4/12/20251 min read


أتذكّرها جيدًا، تلك اللحظات التي كنت فيها صغيرًا، غارقًا في شعورٍ لا أعرف له اسمًا، لكني كنت أدركه جيدًا: وجعٌ في القلب، غصّة في الحلق، دموع تحاول أن تجد طريقها إلى الخدّ. وفي تلك اللحظة، كانت أمي تنظر إليّ بقلقٍ خافت، لكنها لا تلبث أن تُصلّب نبرتها وتقول:
"كن قويًا."
لم يكن ذلك قسوة منها، بل كانت محاولة -خائفة- لحمايتي من عالمٍ ظنّت أنه لا يرحم الضعفاء.
مع ذلك، كنت أرى كل شيء في عينيها.
رأيت خوفها، ورأيت ضعفها، رأيت مشاعرها التي كانت تختبئ خلف وصايا "الرجولة المبكرة".
كنتُ طفلًا، نعم، لكنني شعرت حينها أن هناك شيئًا غير متسق.
كيف يُطلب مني ألّا أشعر، بينما مشاعرها تفضحها دون أن تتكلم؟
ذلك التناقض الغريب — بين ما يُقال لي، وما أشعر به — ظلّ يتردّد داخلي لسنوات.
كبرتُ على أن "القوة" تعني أن أخفي، أن أتماسك، أن أبتلع كل ما يُزعج، وأن أمضي كأن شيئًا لم يكن.
لكن كبر في داخلي أيضاً، هل هذا هو تعريف القوة الحقيقية؟
الرسائل الأولى: كيف تشكّلت صورة "القوة" في داخلنا؟
في اغلب بيوتنا، لم يكن هناك متّسع للدموع. لا لأن الأهل قُساة، بل لأنهم بدورهم تربّوا على أن "الضعف" لا يُناسب الحياة. فتسرّبت إلينا رسائل صامتة: أن تُظهر مشاعرك يعني أنك ضعيف. أن تطلب الدعم، فأنت هش. أن تبكي، فأنت "لست قويًا بما يكفي".
لكن علم النفس التنموي، وعلم الأعصاب المعاصر، يرسمان اليوم صورةً مختلفة تمامًا: قمع المشاعر لا يبنينا، بل يُراكم فينا صراعًا صامتًا، رغم انه لا يُرى، لكنه يُثقلنا. الجروح التي لا نُعطيها صوتًا، تُصبح صدىً دائمًا في خلفية وعينا.
✍️ تمرين بسيط للتأمل:
تذكّر ثلاث مواقف من طفولتك شعرت فيها بالخوف أو الحزن أو الخجل. ماذا حدث؟ كيف كانت ردة فعل من حولك؟ وكيف أثّر ذلك على فهمك لما يعنيه أن تكون "قويًا"؟
اللين: حين لا يكون الضعف ضعفًا
تقول برينيه براون، الكاتبة والباحثة في الشجاعة والضعف، عبارة تُلخّص جوهر هذا التحول:
"القوة هي: ظهر قوي، وجبهة ناعمة، وقلب جامح."
إنها لا تتحدث عن الصلابة التي تُخفي الانكسار، بل عن القوة التي تحتضن الضعف بوعي.
عن الظهر القوي الذي يحمي، والجبهة الناعمة التي لا تخجل من المواجهة، والقلب الجامح الذي يجرؤ على الشعور، رغم كل ما قد يأتي معه من ألم.
هذا النوع من القوة لا يولد من الكبت، بل من الحضور. من التواضع أمام مشاعرنا. من أن نسمح لها بالوجود، دون أن نُحاكمها.
🧘♀️ تمرين "مساحة الشعور":
اختر شعورًا مزعجًا (خوف، غيرة، حزن...) ، واجلس معه دون أن تهرب منه. خذ نفسًا عميقًا، وقل: "أنا أسمح لهذا الشعور أن يكون هنا، دون مقاومة."
لاحِظ: ما الذي يتغيّر حين لا تقاوم؟ أحيانًا، فقط حين نُصغي بصدق، يبدأ الألم بالتلاشي.
الوعي العاطفي: الجسر نحو الوعي الذاتي
الوعي العاطفي لا يعني أن نُصبح "مثاليين" في موازنة مشاعرنا فقط، بل أن نكون صادقين في رؤيتنا لما يجري داخلنا.
أن نعرف متى نتوتر، ولماذا. متى نغضب، وما الذي خلف غضبنا.
أن نكفّ عن لوم أنفسنا لأننا شعرنا، وبدلًا من ذلك، نسأل: "ما الذي يحاول هذا الشعور أن يُخبرني به؟"
كلما ازداد وعينا العاطفي، ازدادت قدرتنا على التعامل مع الحياة بنضج. فالفرد الواعي لا يكبت، بل يُلاحظ، يُسمّي، ثم يختار كيف يستجيب.
📓 مفكرة الوعي العاطفي:
كل مساء، اكتب:
. ما الشعور الأبرز الذي راودك اليوم؟
. ما الذي سبّبه؟
. كيف عبّرت عنه؟ هل كان ذلك مفيدًا أم لا؟
خلال أسبوع، ستبدأ برؤية نمط متكرر — وهذه هي بداية التحوّل.
الشجاعة في أن نشعر.. لا أن نخفي
المرونة الحقيقية لا تعني ألا نتأثر، بل ألا نغرق حين نتأثر. أن نملك أدوات: التنفس، والتعبير، والتأمل، والطلب.
أن نقول "أنا متعب" دون خجل. أن نقول "احتجتُ لمن يسمعني" دون أن نلوم أنفسنا.
أن نجرؤ على إظهار قلوبنا، لا لأننا نبحث عن الشفقة، بل لأننا نعرف أن الظهور الحقيقي هو أرقى أشكال القوة.
💬 تمرين "حوار القلب":
اختر شخصًا تثق به، وشارك معه شعورًا طالما خبّأته. لا تطلب نصيحة، فقط شارك. وراقب النتيجة: غالبًا ستشعر أنك أقرب إلى نفسك مما كنتَ تتخيل.
الخاتمة: العودة إلى الذات
ربما آن الأوان أن نعيد تعريف القوة في قلوبنا:
- ليست في القدرة على الكتمان، بل في الشجاعة على الظهور.
- ليست في الانتصار على المشاعر، بل في القدرة على مرافقتها.
- ليست في أن نبدو دائمًا بخير، بل في أن نملك الشجاعة لنقول: "أنا أحتاج لوقت، وأنا أستحق أن أُحتضن".
القوة الحقيقية... قد تكون في هذا اللين الذي تأخرنا كثيرًا في الثقة به.