ما الذي يجعلك جديرًا بالثقة؟ "الأربعة (إ)"

هل أثق بذاتي؟ هل أستحق أن يثق بي الآخرون؟

المقالات

مصطفى حمد

6/3/20251 min read

حين نسأل أنفسنا بصدق:
هل أثق بذاتي؟ هل أستحق أن يثق بي الآخرون؟
فإن الجواب لا ينبع من مهاراتنا أو نجاحاتنا السطحية، بل من جذور أعمق... من شيء يشبه التربة التي تنمو فيها شجرتنا الداخلية.

ومن خلال خبرتي، بعد مرافقة مئات الأشخاص في مسارات الوعي الذاتي، وجدتُ أن أغلب الناس لا يشعرون بثقة حقيقية في أنفسهم — ولا يثق بهم الآخرون بحق — إلا حين يحققون نوعًا من الاكتمال الهادئ في أربعة أركان وجودية أُسميها "الأربعة (إ)":
إيمان، انتماء، إدراك، إحسان.

هذه الأربعة ليست مهارات تكتسبها، بل حالات تنمو فيك عندما تبدأ بالعيش على نحوٍ صادق، منسجم، متجذر.

فالجدارة بالثقة لا تُشترى، ولا تُمنح.
إنها تُبنى من الداخل... وتُجسَّد في حضورك.
حين تؤمن بشيءٍ أكبر منك،
وتنتمي إلى من تحبهم ويحبونك،
وتدرك حقيقتك بكل صدق وعطف،
وتُحسن إلى غيرك كما تُحسن إلى نفسك،
تصبح إنسانًا يُؤلف، ويألف...
كما قال النبي (صلى الله عليه وآله):

"المؤمن إلفٌ مألوف، ولا خير فيمن لا يألف ولا يُؤلف."

في هذا المقال، سأدعوك لاختبار هذه الأركان الأربعة في حياتك. ليس بوصفها معايير للحكم عليك، بل كمرايا للصدق، ومفاتيح لراحةٍ داخلية لا يمكن تزييفها:
ثقة تبدأ منك… وتثمر فيمن حولك.

١. الإيمان: الجذور الأخلاقية التي تُثبّتني

أن أثق بنفسي، يعني أن أعرف على أي أرض أقف.
هل أعيش وفق ما أؤمن به؟ أم أتنازل بصمت لأرضٍ رخوة من التبرير والتردد؟
ليس الإيمان هنا عقيدةً بالضرورة، بل هو نظام من القيم التي تمنحك بوصلة، وتعيدك إليك حين تتوه.

الذين يعيشون بإيمانٍ صادق، يُشعّ منهم نوع من الثبات الداخلي. تشعر أنهم واضحون، لا لأنهم صارمون، بل لأنهم مربوطون بجذر أخلاقي عميق يجعلهم أكثر اتساقًا، وأقل اضطرابًا.

إننا نثق بهؤلاء، ليس لأنهم لا يخطئون، بل لأنهم – حين يخطئون – يعترفون ويصحّحون، لا يبرّرون.
الثقة تبدأ من هذا الإيمان الهادئ الذي يُعلّمنا كيف نحيا بما نعتقد، لا بما يُرضي الجميع.

٢. الانتماء: الدفء الذي يحميني من التهديد

لا أحد يشعر بالجدارة في العزلة.
نحتاج إلى من نضحك معهم، من نحزن معهم، من نثق أنهم يعرفوننا ويحبوننا رغم كل شيء.
الانتماء ليس فقط أن تكون جزءًا من مجموعة، بل أن تكون مرئيًا، مقبولًا، مرحّبًا بك.

الذين يشعرون بالانتماء يظهرون بوجهٍ أكثر استرخاءً. لا يتصرفون كأنهم في اختبار دائم لإثبات ذاتهم.
إنهم يعرفون أنهم ليسوا وحدهم، وأن العالم ليس ساحة منافسة بل حديقة علاقات.

الثقة لا تنمو في التهديد، بل في الأمان.
والانتماء يمنحنا هذا الأمان العميق:
أن أكون أنا، وأبقى محبوبًا.

٣. الإدراك: الصدق الذي لا يخجل من الظل

هل ترى نفسك حقًا؟
لا كما تحب أن تبدو، ولا كما يراك الآخرون، بل كما أنت… بعثراتك، ومحاولاتك، وندوبك القديمة.

الجدارة بالثقة تبدأ من هنا: أن تدرك ذاتك بصدق وحنان.
من لا يرى عيوبه، لا يمكن أن يكون جديرًا بالثقة
لكن من يجلد نفسه بها باستمرار، لا يُطمئننا أيضًا.

إن الإدراك هو هذا التوازن النبيل: أن أعرف نفسي كما هي، وأبقى إلى جانبها.
أن أقول للناس — ضمنيًا —: "أنا لست مثاليًا، لكنني حقيقي. وما أعدك به سأحاول جاهدًا أن ألتزم به."

الثقة تحب الصدق.
والصدق يبدأ من إدراك الذات، دون أقنعة… ودون خجل.

٤. الإحسان: الأثر الذي يسبقني ويشفع لي

الناس لا يثقون بمن لا يهتم بهم.
والثقة لا تُبنى فقط بكلامٍ لطيف، بل بأفعالٍ صغيرة تتراكم لتصنع أثرًا.

الإحسان هو هذا الأثر.
هو ما يشعر به الناس حين تغادر المجلس.
هو اللطف في نبرة صوتك، والكرم في انتباهك، والنية الطيبة خلف كلماتك.

الذين يُحسنون — حقًا — لا يفعلون ذلك ليستحقوا الثناء، بل لأنهم يعرفون أن هذا ما يصنع إنسانيتهم.
نثق بهم، لأنهم يجعلون الحياة حولهم ألطف، ولو قليلًا.

وحين ننظر خلفنا، ونتذكر كم مرة خفّفنا على أحد، أو زرعنا أملًا في لحظة ألم
نبتسم لأنفسنا ونقول:
أنا لم أكن سيئًا تمامًا… كنت إنسانًا يحاول أن يكون طيبًا. وهذا يكفي.

لأنك أهلٌ لأن يُؤتمن عليك القلب

في نهاية هذه الرحلة نحو الجدارة بالثقة، نكتشف أن الأمر لا يتعلق بصورة مثالية نُحاول تسويقها، بل بحضور حقيقي نمنحه لأنفسنا وللآخرين.
أن تكون جديرًا بالثقة لا يعني أن تكون بلا عيوب، بل أن تكون واضحًا، صادقًا، رحيمًا، ومسؤولًا.

عندما تؤمن بما تفعل،
وتنتمي إلى من يحبّك ويقبلك،
وتُدرك نفسك بصدق دون أن تتهرّب منها،
وتُحسن في أثرك على من حولك
فأنت إذًا شخص "يُؤلف ويألف"كما وصفك النبي محمد (صلى الله عليه وآله)
وما أجمل هذه الشهادة النبوية:

"المؤمن إلفٌ مألوف، ولا خير فيمن لا يألف ولا يُؤلف."

إنه ليس وصفًا للعلاقات الاجتماعية فحسب، بل شهادة على صلاح الجذر الداخلي للإنسان.
أن تكون محبوبًا بين الناس لأنك إنسان يمكن الوثوق به
إنسانٌ يُطمئن القلب، ويأنس به الرفيق، ويُزرع الأمان في عينيه.

في العمق، الجدارة بالثقة ليست مسألة رأي، بل ثمارٌ تنبت من شجرةٍ ضاربة الجذور في أربعة: إيمان، انتماء، إدراك، إحسان.
وكلما سقيتَ هذه الشجرة… كلما شعرت، وفعلاً استحققت، أن تقول لنفسك:
أنا أهلٌ لأن أكون محبوبًا… لأن أكون موثوقًا… لأن أكون أنا.