من الظل الى النور: كيف نُعيد تدريب وعينا ليرى ما يستحق أن يُرى
رحلة تأملية في فهم التحيّز السلبي، وتطوير الوعي الذاتي من خلال تقنية (G.L.A.D)
مصطفى حمد
5/10/20251 min read


My post content
ذات مساءٍ هادئ، جلستُ أراجع أحداث يومي. مرّت في ذهني المواقف التي لم تُعجبني، الكلمات التي تمنيتُ لو لم أقلها، الوجوه العابسة، والإخفاقات الصغيرة التي شعرتُ أنها أكبر مما هي عليه في الحقيقة. وبينما كنتُ أُغرق نفسي في نقدٍ داخليّ لا يهدأ، توقفت فجأة وسألت نفسي:
"هل حدث اليوم شيء جيد؟"
صمت. ثم فكّرت: نعم، حدث.
ضحكت مع طفلٍ في الشارع، أنهيتُ مهمة كنت أؤجلها، تلقيت رسالة لطيفة من صديق قديم، وشربت قهوتي المفضلة في مقهى هادئ.
لكن الغريب أن هذه اللحظات الجميلة، لم تترك نفس الأثر. مرت مرورًا عابرًا.
وهنا بدأت رحلتي في فهم أمرٍ جوهري:
عقولنا مجبولة على التقاط السلبيات وتضخيمها، وتجاهل اللحظات الصغيرة التي تنبض بالمعنى والبهجة.
🧠 لماذا يغلب التفكير السلبي؟
من حكمة الله تعالى في خلق الإنسان، أن زوّدنا بعقول قادرة على ملاحظة التهديدات والاستجابة لها بسرعة. هذه "البرمجة الداخلية" لم تكن عبثًا، بل لحماية أصل وجودنا، سواء من المخاطر المادية أو حتى من التهديدات المعنوية التي تمسّ كرامتنا، قيمنا، أو مصيرنا الأخروي.
وبينما يرى بعض العلماء أن هذا الميل نشأ من العصور البدائية حيث كانت النجاة ترتبط باليقظة المستمرة للخطر، فإننا – من منظور أوسع – نفهم أن تحسّس الخطر ليس مقصورًا على بيئة في عصر ما، بل هو جزء أصيل من تركيبتنا كبشر، في كل زمان.
لكن المشكلة لا تكمن في وجود هذا التحيز، بل في تضخّمه. أحيانًا، يُعيد العقل تدوير المخاطر، فيُضخم حجمها، ويجعل منها مصدر تهديد دائم، حتى عندما لا يستدعي الموقف الحقيقي كل هذا الإنذار.
فنعيش حالة "استنفار داخلي" مستمر، ونغفل عن كثير من اللحظات المضيئة التي تمر في يومنا ببساطة، لأنها لا تصرخ بصوت عالٍ مثل الخطر.
لقد أكد علم النفس الحديث هذا الميل الطبيعي لدى الإنسان، فيما يُعرف بـ "التحيّز السلبي" (Negativity Bias)، حيث ثبت أن عقولنا تُعطي وزنًا أكبر للتجارب السلبية مقارنةً بالإيجابية. فالمواقف المؤلمة تُسجل بسرعة وبعمق، بينما تمر اللحظات الإيجابية غالبًا بصمت، ما لم نتعمد التوقف عندها وتأملها.
هذا لا يعني أن العقل معطوب، بل أنه يحتاج إلى تدريب جديد: تدريب يُعيد له التوازن، ويُعطي الضوء مساحة تساوي على الأقل تلك التي يأخذها الظل.
🌿 وأين يكون الوعي الذاتي وسط هذا الزحام؟
حين نفهم طبيعة عقولنا، وندرك كيف يهيمن التحيز السلبي على وعينا، تنشأ تلقائيًا رغبة في استعادة السيطرة.
لكن كيف يمكن ذلك؟
هل نستطيع فعلاً أن نختار ما ننتبه إليه، في عالم يمطرنا بالأفكار السلبية والانشغالات من كل اتجاه؟
هنا يبدأ دور الوعي الذاتي، لا كفكرة نظرية، بل كممارسة يومية تُعيدنا إلى الداخل، وتمنحنا مساحة لنفكر... لا كرد فعل، بل من موقع المراقبة والتأمل.
الوعي الذاتي ليس أن نُدرك أفكارنا فحسب، بل أن نُصغي إليها باحترام دون أن نُصدقها كلها.
أن نُراقبها دون أن نندمج معها، كما لو كنا نُشاهد فيلمًا داخليًا يجري على شاشة وعينا.
وهنا فقط، نبدأ برؤية الخيار:
هل أُتابع هذا النمط من التفكير؟ أم أعيد توجيه انتباهي إلى شيء آخر أكثر رحمة، أكثر اتزانًا؟
إن هذه المسافة الصغيرة بين "الفكرة" و"الاستجابة" ليست فراغًا... إنها حرية.
وفي كل مرة نختار أن نُلاحظ بدلاً من أن ننجرف، أن نُعيد التوازن بدلاً من أن نُبالغ، فإننا نُطوّر مهارة الوعي الذاتي، التي تتحول بمرور الوقت إلى ملاذ داخلي يمنحنا السكينة والبصيرة معًا.
لكن هذه المهارة لا تأتي وحدها. إنها تحتاج إلى أدوات، إلى تمرينات تُساعدنا في تعلّم التوقف، والتأمل، والتقدير.
ومن بين هذه الأدوات، تبرز تقنية G.L.A.D كوسيلة بسيطة وعميقة لإعادة تدريب وعينا على رؤية الجانب المضيء في أيامنا.
🌟 (G.L.A.D): ممارسة يومية تُضيء وعينا
في طريق استعادة التوازن، لا نحتاج دائمًا إلى حلول كبيرة… بل إلى لحظات صغيرة نُمسك بها قبل أن تتبخر.
هكذا ولدت فكرة (G.L.A.D.)، لا كطريقة لتجاهل الألم أو إنكار المعاناة، بل كأداة ناعمة تُعلّمنا أن ننتبه لما هو حسن، خفيف، أو مطمئن… مهما بدا بسيطًا أو عابرًا.
هذه التقنية تُشبه مصباحًا صغيرًا نحمله في داخلنا، نُشعله في نهاية اليوم، ونوجّهه نحو الزوايا التي غالبًا ما لا نلتفت إليها.
في كل مرة نمارس فيها هذه التقنية، نُعيد تدريب عقولنا على أن ترى الجمال، الامتنان، التقدّم، والمعنى… لا لأنها لم تكن هناك، بل لأنها لم تكن تحظى بالضوء الكافي.
(G.L.A.D) هي اختصار لأربعة أبواب نمرّ من خلالها إلى وعينا الإيجابي:
G – Gratitude | الامتنان:
لحظة واحدة فقط نشعر فيها بالامتنان. لا يشترط أن تكون كبيرة أو درامية… قد تكون مجرد نسمة باردة في وقتٍ حار، أو ابتسامة من شخص غريب.L – Learning | التعلم:
ما الذي كشفه لي هذا اليوم؟ عن نفسي؟ عن الآخرين؟ عن الحياة؟A – Accomplishment | الإنجاز:
ماذا أنجزت اليوم؟ ليس المطلوب شيئًا خارقًا، بل لحظة شعرتَ فيها أنك تجاوزت شيئًا، أو أتممت خطوة نحو الأمام… حتى لو كانت مجرد مكالمة كنت تؤجلها.D – Delight | البهجة:
ما اللحظة التي ابتسم فيها قلبك اليوم؟ ربما مشهد طبيعي، أو نغمة موسيقية، أو ضحكة خفيفة خرجت منك دون تفكير.
مع الوقت، تتحوّل هذه الممارسة إلى عدسة جديدة نرى بها الحياة…
عدسة لا تُنكر الظلال، لكنها تُعلّمنا أن نرى الضوء بجوارها، وأن نُعطيه حقه في البقاء.
📝 ورقة العمل: مساحة شخصية لإعادة توجيه الانتباه
حين نتوقف لكتابة شيء من يومنا، فإننا لا نُسجل فقط ما حدث، بل نمنحه حياةً ثانية.
ولأن العقول تحتاج إلى إشارات ملموسة لتتعلم، جاءت ورقة عمل G.L.A.D كدعوة هادئة للجلوس مع الذات… وتأمل اليوم بعينٍ أخرى.
ورقة العمل هذه ليست اختبارًا، ولا تمرينًا عقليًا جافًا.
إنها مساحة دافئة، تُمارس فيها مهارة الوعي الذاتي بلُطف، وتُعيد توجيه انتباهك بوعي، من الزحام إلى النعمة، من الصخب إلى المعنى.
كل مرة تملأ فيها هذه الورقة، كأنك تقول لعقلك:
"انظر، هناك أشياء تستحق أن تُلاحظ… دعنا نُعطيها وقتًا ومكانًا."
ومع الوقت، شيئًا فشيئًا، تُصبح أكثر وعيًا بما يُنير يومك… لا لأن الحياة تغيّرت، بل لأنك غيّرت الطريقة التي تراها بها.
📥 يمكنك تحميل الورقة الآن من هذا الرابط: هنا
🌱 ختامًا: مساحة صغيرة… لتحوّل كبير
في عالم لا يتوقف عن الدفع بنا نحو التوتر، نحتاج إلى لحظات نُبطئ فيها قليلًا، ونُصغي لما يجري بداخلنا.
نحتاج إلى تدريب عقولنا، لا على تجاهل السلبية، بل على ألا نُقيم فيها طويلًا.
تطوير الوعي الذاتي لا يحدث فجأة، بل عبر خطوات بسيطة… تتكرر.
وممارسة تقنية G.L.A.D هي إحدى هذه الخطوات؛ دعوة إلى ملاحظة الخير، التعلم منه، والاتصال بما يجعلنا أقوى وأهدأ في آن.
امنح نفسك هذه الدقائق… فقد تُغيّر شكل يومك، أو على الأقل، تُضيء فيه زاوية كانت مظلمة.