نياشين الوعي.. اوسمة لا ترى

أخذك في رحلة داخلية عميقة، أعرض فيها الأوسمة التي لا تُعلّق على الصدور، بل تُنقش على الذاكرة والروح. أوسمة لا يراها أحد، لكنها تشهد على معارك صامتة، ونضوج مؤلم، وتحوّلات لا تُقال. كل فقرة هنا ليست درسًا، بل بصمة حيّة من حياة تعلّمت فيها أن أنجو... وألمع.

المقالات

مصطفى حمد

6/8/20251 min read

أكتب هذه الكلمات بعد ليلةٍ خيّم فيها صمتٌ ثقيل، كأن شيئًا لا يُرى يضغط على صدري. لم يكن حزنًا، ولا إرهاقًا... بل ثِقَل تلك الأوسمة الخفيّة التي لا يلتفت إليها أحد، لكنها تترك علامات غائرة على الروح. تساءلتُ: هل يُكافأ المرء حين يفيق؟ أم يُعاقب؟ ثم تذكّرت... أنني ارتديتُ هذه الأوسمة حين تصدّعت صورتي، وتفتّت صوتي، وابتعدتُ عن كل ما كنت أظنه "أنا". وها أنا أكتب... لا لأتباهى، بل لأوثّق أنني نجوت.

(١) الوسام الأول: كسر الأوهام — المرايا التي خذلتني

كانت البداية خدعة بصرية. ظللتُ أرى نفسي في عيون الآخرين: محبوبًا، لطيفًا، "ابن الاصول الذي يرضي الجميع". حتى جاء اليوم الذي وقفتُ فيه أمام مرآةٍ وسألت: من هذا؟

سقطت المرآة.

أذكر نظراتهم: مزيج من شفقة وابتسامة مائلة. "كنتَ تظن أن هذا حقيقي؟" قال أحدهم، وضحك.

ضحكوا.

وأنا انحنيتُ أجمع الشظايا، بيدي العارية.

اعتقدوا أنني انكسرت. لكن الحقيقة أن كل شظيةٍ كانت تحمل زاوية جديدة لرؤية نفسي. بدأتُ أرتّبها، لا كمرآة، بل كخارطة طريق... ترشدني لما هو حقيقي.

(٢) الوسام الثاني: لغة اللا-ترجمة — حين أصبح صوتي غريبًا

بدأ صوتي يتغيّر. لا أعلى ولا أوطأ، لكنه لم يعد مألوفًا. لم أعد أكرّر الكلمات نفسها، ولا أسلك الدروب المرسومة. رفضتُ أشياء كثيرة بلا تفسير مقنع، فقط لأن شيئًا في داخلي لم يعد يقبلها.

قالوا: "ليش تغيّرت؟"

قالوا: "صرتَ صعب الفهم."

كنتُ أبتسم بصمت، وفي داخلي أعرف: أنا الآن أخط حروفي بيدي. هذه الحيرة التي في أعينهم؟ كانت البرهان.

(٣) الوسام الثالث: المرآة المُقلقة — عندما أصبحتُ انعكاسًا مؤلمًا لغيري

حين بدأتُ أرى ذاتي بوضوح، بدأتُ أُقلق الآخرين.

بعضهم ابتعد، كأن مجرد حضوري صار يكشف ما لا يودون رؤيته.

بعضهم قال: "أنت تغيّرت."

وبعضهم بقي، لكنه لم يعد ينظر إليَّ بالطريقة نفسها.

وقتها أدركتُ أن الوعي ليس دائمًا نورًا جميلاً... بل قد يكون كشافًا يُسلّط على زوايا مُظلمة.

وسامي هنا؟ أنني تحمّلت هذا الضوء — وتحمّلت صمتهم.

(٤) الوسام الرابع: عزلة المتحوِّل — بين نسختين مني

هناك منطقة رمادية، لا أكون فيها كما كنت، ولا أصبحتُ تمامًا ما أريد.

في هذه المساحة، عشتُ عزلتي الأعمق.

كنتُ أخلع جلدي القديم، وأشعر بكل نسمة تمر على جلدي الجديد، كأنها تحفر أثرًا.

سمّوها "غربة". لكني عرفتُها: كانت مخمري السري، الأرض الوحيدة التي سمحت لي أن أعود إليّ.

(٥) الوسام الخامس: فحم التحوّل — النار التي ربّتني

تذكّرتُ جدي يوم قال: "الجمرة اللي ما تحركك، ما تدفيك."

آنذاك ضحكت، واليوم فقط فهمت.

كل لحظةِ استبعاد، كل خذلان، كل تأويل خاطئ... جمرة.

أحملها في صدري، لا لتحرقني، بل لتدفّئني في الليالي الطويلة.

وسامي؟ أنني ما زلتُ أبتسم رغم الرماد، وما زلت أؤمن أن تحت هذا الفحم... نار لم تنطفئ.

واخيراً: لماذا أرتدي أوصالي؟

لأنني التقطتُ يومًا كلمات كاتب قال: "لا تُفهم بشكل خاطئ. ارتدِه كشارة شرف."

ومنذها، وأنا أحوّل كل سوء فهمٍ، كل اتهام، كل انسحاب، إلى وسام.

نعم، صدري أثقل الآن.

لكنّه يلمع في الظلام.

كل وسامٍ هنا هو علامة حياة.

أنا لا أروي قصص خسارات. بل أدوّن شهادات حياة من ساحات الذات.

كل يوم، أقاتل لأكون أكثر من أمس.

وأقلّ من غد.

وأنت؟

ما الوسام الذي تُخفيه في صدرك؟