ستُّ عاداتٍ تقتل ثقتك بنفسك.. بصمت
الثقة ليست شعورًا مؤقتًا، بل علاقة طويلة الأمد مع ذاتك… وهذه العادات تسرقها منك كل يوم من دون أن تنتبه.
المقالات
مصطفى حمد
4/9/2025


في جلسات الوعي الذاتي، نكتشف ان ضعف الثقة لا يحدث في اللحظات كارثية فقط، بل في الغالب يتشكل تدريجياً بتأثير التفاصيل الصغيرة: عندما تصمت رغم رغبتك في الكلام، أو تعتذر عن وجودك، أو تضحك على تقليل قيمتك وكأنه "مزاح".
تصوَّرْ أنك تحمل نبتةً صغيرة في يدك، هشة لكنها قادرة على النمو حتى تغطي الأرض بأغصانها. هذه النبتة هي ثقتك بنفسك. قد تظن أن اقتلاعها لا يكون إلا بعاصفةٍ مدمرة، لكن الحقيقة أنها تذبل باستمرار كلما سقيتها بماء فاسد، أو تجاهلتَ أشعة الشمس التي تحتاجها لتنمو.
هناك عادات يومية تعمل عمل الماء الفاسد… تشبه "الجرعات السامة" التي تُدخلها إلى جسد النبتة دون قصد. فكل مرة تهمل فيها قيمتك، تتحول ثقتك بنفسك من شجرة وارفة إلى ساقٍ جافٍ يُصارع البقاء.
واقعاً، الثقة لا تنكسر فجأةً كزجاج، بل تتسرب من بين أصابعنا كالرمال، عبر عاداتٍ يوميةٍ نعتقدها بسيطة وبلا وزن، بينما هي تحفر أخاديد عميقة في ادمغتنا عن صورتنا وذواتنا.
وفقًا لدراسات علم النفس، فإن تكرار السلوكيات -بغض النظر عن كونها سلبية او إيجابية- يخلق مسارات عصبية في الدماغ تُعزز شعوراً يتناسب معها، فما بالك إذا كانت هذه السلوكيات سلبية؟! لذا فسوف يتعزز الشعور بالدونية. وهنا تكمن الخطورة: هذه العادات لا تُولد الإحساس بعدم الثقة فحسب، بل تُحوِّله إلى حقيقة راسخة تعيشها كل يوم.
وبما ان هذه العادات خفية في تأثيراتها السلبية، او لأنها لا يحسب لها تأثير كبير، بل حتى يمكن ان يعتبرها البعض جيدة من باب عدها من الفضائل واللطف، فالوعي بها وبحقيقتها وتأثيراتها هو الأولى للتغيير.
أن مجرد الانتباه إلى هذه العادات — التي ربما تمارسها بشكل تلقائي ودون تفكير — يُعتبر تحولًا جوهريًا. لأنك لا تستطيع أن تغيّر ما لا تراه. بمعنى آخر: حين تدرك أن صمتك في المواقف الحاسمة يضعف ثقتك، أو أن اعتذارك المفرط يقلل من قيمتك، فإن هذا الوعي يصبح نقطة البداية.
فالتغيير لا يبدأ بالفعل فقط، بل بالفهم، وبالنظر إلى الذات من زاوية جديدة.
ملاحظة مهمة:
قبل ان ادخل في تفاصيل هذه العادات لابد ان الفت انتباهك لقولي قبل قليل (حتى يمكن ان يعتبرها البعض جيدة من باب عدها من الفضائل واللطف). وهي بالفعل بحسب ثقافتنا الاجتماعية -الدينية والعرفية- تعبر عن التزام بالفضيلة وحسن الادب، على وجه التحديد عندما تترك أثر جيد في ادمغتنا يعزز شعورا إيجابياً.
لذا فحديثنا في هذا المقال سيتناول هذه العادات في جانبها السلبي او المطلق أي عندما لا تراعي السلبية والايجابية وتكون ممارسات تلقائية ودون تفكير او عي.
ومع ذلك، ومن باب الأمانة الأخلاقية، وتداركا لإمكانية الخلط والاشتباه سوف اتطرق اثناء الحديث عن كل عادة من هذه العادات الى طريقة التمييز بين الممارسات الإيجابية والسلبية لها.
والان للنطق في الكلام عن العادات الست:
1- الصمت عندما يكون لديك ما تقوله
أن تظل صامتًا رغم أن قلبك وعقلك مليئان بما يجب قوله، هو انسحاب تدريجي من ساحة وجودك الفاعل.
في اجتماع الفريق، كان "أحمد" يملك فكرة واضحة لتحسين سير العمل. استمع للنقاش كاملًا، وانتظر لحظة مناسبة للكلام… لكنها لم تأتِ أبدًا. كلما همّ أن يتكلم، شعر أن صوته "أقل أهمية". خرج من الاجتماع صامتًا، وفي رأسه حوار داخلي: "لماذا لم أتكلم؟ هل كنت سأُحرج نفسي؟"
النتيجة: عاد إلى مكتبه محبطًا، ليس لأن فكرته لم تُطرح… بل لأنه خان صوته.
أنت لا "تحافظ على الهدوء"، بل قد تكون تتنازل عن صوتك.
نعم، في الكثير من الأحيان، يُعتبر الصمت فضيلة عظيمة ويُعبّر عن الحكمة والتواضع. ولكن في المواقف التي تستدعي الهدوء أو تجنبًا للصراع، هنا يمكن أن يكون الصمت هو الخيار الأنسب. بينما إذا أصبح الصمت عادة مستمرة في كل موقف، فإن هذا قد يعني تراجعًا عن التعبير عن نفسك، ويُضعف شعورك بالقوة الداخلية.
التزام الصمت بشكل دائم في مواقف تحتاج إلى رأيك أو حضورك الفعّال، يضر بثقتك بنفسك. الصمت في لحظات يجب أن تُسمِع فيها نفسك يخلق هوة بينك وبين تقديرك الذاتي.
سؤال الوعي: هل أصمت بدافع الهدوء؟ أم بسبب الخوف من ردة الفعل؟
✔ جرب أن تقول جملة كنت تنوي كتمها، حتى لو كانت بسيطة.
2- السماح للآخرين بالتحكم في لغتك
أن تعيد صياغة جملك حتى ترضي الآخرين، أو أن تتجنب قول ما تؤمن به حتى لا تُزعج أحدًا، هو نوع من الرقابة الذاتية التي تهدم ثقتك تهدم لَبِنَة-لَبِنَة.
"ليلى" كانت تعتقد أن التعبير عن رأيها بوضوح قد يجعلها "فظّة" أو "غير محبوبة"، فبدأت تُعدّل كلماتها في كل حوار: بدل أن تقول "لا أتفق"، تقول "ربما… لكن يمكننا التفكير"، وبدل أن تقول "أشعر بالإرهاق"، تبتسم وتقول "كل شيء تمام".
النتيجة: بعد فترة، فقدت الشعور بأن كلماتها تعبّر عنها فعلًا… صارت تُجامل أكثر مما تتكلم من القلب.
حين تختار كلماتك وفق ما يُرضي الآخرين لا وفق ما يُعبّر عنك، فأنت تهمّش صوتك لصالحهم.
صحيح انه في بعض الحالات، يمكن أن يُعتبر احترام الآخرين وإفساح المجال لهم للتحدث من آداب اللباقة. في محيط العمل أو العائلة، فقد يكون هذا سلوكًا يعكس التواضع وحسن الاستماع. ولكن إذا كانت هذه العادة تنبع من رغبة دائمة في إرضاء الآخرين أو الخوف من التعبير عن نفسك، فإنها تصبح ضارة لثقتك. عندما لا تُعطي لنفسك الحق في التعبير عن آرائك، فإنك تضحي بثقتك وقيمتك الذاتية.
الثقة الذاتية لا تعني العدوانية، بل الصدق مع النفس في التعبير.
سؤال الوعي: ما الكلمة التي لم أقلها لأنها قد تُزعج؟
✔ تحدّث بلغتك الخاصة، لا بلغتهم.
3- السخرية من الإهانة وكأنها مزحة
أن تضحك بينما يُنتقص منك، هو أن تعطي رسالة داخلية لنفسك بأن كرامتك أمرٌ قابل للتنازل.
في جلسة عائلية، قال أحد الأقارب لـ “خالد": "ما زلتَ بلا وظيفة؟ يا رجل، يبدو أنك قررت تعيش عالة للأبد!" وضحك الجميع. ضحك خالد معهم، وهزّ رأسه ساخرًا من نفسه.
لكن في داخله، كان هناك صوت صغير يقول: "لماذا أضحك على ألمي؟ لماذا أقبل أن أكون مادة للتندر؟"
النتيجة: تلك الليلة لم ينم جيدًا، ليس بسبب كلماتهم، بل بسبب ضحكته هو.
"كان يمزح"… جملة خطيرة حين تُستخدم لتبرير التقليل من كرامتك.
من الممكن في بعض المواقف، مثل المناسبات الاجتماعية، ان تكون مجاراتك للضحك على تعليقات جارحة نوعًا من آداب التعامل مع المواقف المزعجة، وذلك لتخفيف التوتر الاجتماعي. لكن عندما يتحول قبول السخرية والإهانة إلى أسلوب دائم في التعامل مع ما يقلل من شأنك، هذا يرسل رسالة -لنفسك وللآخرين- بأن كرامتك ليست أولوية بالنسبة لك. لأن ضحكك في وجه الإهانة ليس دائمًا هو دليل على القوة، بل قد يكون أحيانًا تواطؤًا صامتًا على التقليل من قدرك.
كل مرة تضحك مجاملة على إهانة، تفقد جزءًا من احترامك لنفسك.
سؤال الوعي: هل أضحك لأني فعلاً لا أهتم؟ أم لأني أخاف قول "توقف"؟
✔ تعلم أن تقول: "لا أقبل هذه الطريقة"، حتى بابتسامة.
4- المبالغة في شرح مواقفك
أن تشعر أنك بحاجة دائمة لتبرير كل تصرف أو قرار، هو نزع لشرعية الوجود والاختلاف عن نفسك.
"منى" قررت رفض حضور مناسبة اجتماعية لأنها كانت تحتاج يوم راحة. لكنها أرسلت رسالة طويلة من خمس فقرات تشرح لماذا لن تأتي، وتعتذر، وتبرر، وتطلب التفهم، ثم تختم بـ: "أتمنى ما تكونوا ما زعلتوا".
النتيجة: لم يعاتبها أحد، لكنها شعرت بالتعب أكثر بعد إرسال الرسالة… كأنها كانت تدافع عن جرم، لا عن حقّها في الراحة.
التفسير الزائد شعور خفي بأنك مذنب… فقط لأنك موجود.
في بعض السياقات، مثل التفاعل مع الآخرين في العمل أو في العلاقات الاجتماعية، قد يكون الشرح أو التبرير أمرًا ضروريًا لفهم وجهة نظر الشخص الآخر. ولكن إذا كان التبرير الدائم لنفسك هو سلوك مستمر بسبب الخوف من الرفض أو بسبب عدم شعورك بالأمان، فقد يسبب ذلك شعورًا بعدم الكفاءة والضعف.
الثقة الحقيقية لا تحتاج إلى محكمة داخلية.
سؤال الوعي: لماذا أشرح نفسي؟ هل أبحث عن قبول؟
✔ درّب نفسك على الصمت بعد قول "لا"، دون تقديم مرافعة.
5- الاعتذار عن كل شيء
"آسف لأني تحدثت كثيرًا"، "آسفة على السؤال الغبي"، "آسف على الإزعاج"… هذا النمط يغرس فيك شعورًا بأن وجودك عبء.
"سالم" كان في اجتماع زووم، وتحدث لمدة 3 دقائق عن فكرته، ثم قال: "آسف إذا أخذت وقت زيادة". وحين سعل قليلًا أثناء حديثه، قال: "آسف على الصوت". وحين قطعته زميلته، قال: "آسف، أكمّلي أنتِ".
النتيجة: بعد الاجتماع، شعر أنه كان "ثقيلًا" على المجموعة، رغم أن الجميع قدّر طرحه. لأنه يعتذر عن نفسه على كل شيء، بدأ يراها عبئًا."
"آسف أني سألت"، "آسف على التأخير 30 ثانية"، "آسف إذا أزعجتك"...
بالطبع، الاعتذار يمكن أن يكون سلوكًا يعكس حسن التربية والقدرة على الاعتراف بالخطأ، وهو أمر جيد جداً في المواقف التي تتطلب من الشخص تحمّل المسؤولية. لكن إذا كان الاعتذار يحدث بشكل مفرط ودائم حتى عن أمور تافهة أو غير ضرورية، فإن ذلك قد يعكس ضعفًا في تقديرك لذاتك ويجعل شعورك بأنك عبء على الآخرين.
الاعتذار الواعي مطلوب، أما الإفراط فيه فهو إلغاء للذات.
سؤال الوعي: هل أعتذر لأني أخطأت؟ أم لأني لا أشعر أني أستحق المساحة؟
✔ استبدل "آسف" بـ "شكرًا لصبرك" أو "شكرًا لتفهمك".
6- ارتداء ما لا يُشبهك
قد تبدو عادة سطحية، لكنها تعكس علاقتك مع ذاتك. اللباس ليس رفاهية بل وسيلة تواصل صامتة مع العالم.
"هند" كانت تلبس دومًا ما يراه الآخرون "مناسبًا"، رغم أنها لم تكن ترتاح فيه. في يوم، ارتدت ملابس بألوان تحبها فعلًا، وأسلوب تعبّر فيه عن شخصيتها. شعرت براحة مختلفة عن كل مرة، كما لو أنها أخيرًا… تُشبه نفسها.
النتيجة: لم يُعلّق أحد، ولم تتغير نظرة الناس كثيرًا… لكن نظرتها لنفسها تغيّرت.
الملابس ليست فقط مظهرًا، بل رسالة غير منطوقة عن علاقتك بنفسك.
بالتأكيد، ان اللباس المحتشم والمناسب يُعتبر من الفضائل التي تعكس احترام الشخص لذاته ولمجتمعه. لكن إذا كان اختيار الملابس يتم دائمًا استنادًا إلى رغبة في تلبية توقعات الآخرين أو خوفًا من انتقاد المجتمع، فإن ذلك ينعكس سلبًا على ثقتك بنفسك. عليك أن ترتدي ما يعكس شخصيتك ويجعلك تشعر بالراحة.
حين تختار ما يُرضي الآخرين، قد تكون تنكر نفسك دون وعي.
سؤال الوعي: هل أرتدي ما يعكس هويتي؟ أم ما يُريح أعين الآخرين؟
✔ اختر قطعة واحدة على الأقل تُشبهك كل يوم، حتى لو كانت بسيطة.
في الختام، كل عادة من هذه العادات، حين تتكرر، لا تضعف ثقتك فحسب، بل تزرع فيك صورة مشوشة عن ذاتك. واعي الذات يدرك أن احترام النفس لا يُبنى فقط في اللحظات الكبيرة، بل في التفاصيل اليومية الصغيرة: في كيف تتحدث، متى تصمت، وما الذي تسمح له أن يُقال باسمك.
والمفتاح هو: أن تلاحظ… أن تسأل… ثم أن تختار بوعي.